آفاق التوظيف في قطاع السياحة السعودي والنمو الاقتصادي

​حاولت العديد من الدراسات الاقتصادية تقدير مساهمة قطاع الخدمات السياحية في انجاز النمو الاقتصادي، وتحديد دوره في استدامة هذا النمو في التجارب الدولية المختلفة. وقد عكست نتائج أغلب هذه الدراسات وجود ما يشبه الاتفاق على تنامي الدور الذي يحتله قطاع السياحة في توليد الناتج المحلي؛ ومن ثم تنامي دوره في انجاز النمو الاقتصادي في العديد من دول العالم. وفي المقابل لا يوجد اتفاق مماثل على قدرة هذا القطاع على تحقيق الاستدامة في النمو.

فهناك باحثون يرون أن قطاع السياحة قادر على الحفاظ على معدل مرتفع ومستقر من النمو الاقتصادي، ومنهم من يعتقدون أنه لا يجوز للسياسة الاقتصادية التعويل على النمو المولد من هذا القطاع إذا أرادت استدامة ما تحققه من نمو اقتصادي. ولأن المقام لا يتسع للاستفاضة في تفنيد حجج المؤيدين والمعارضين لدور القطاع السياحي في النمو الاقتصادي، وبهدف استشراف مستقبل القطاع السياحي في الاقتصاد السعودي، فسنكتفي هنا بمحاولة الإجابة على السؤالين التاليين: إلى أي مدى يسهم القطاع السياحي في استدامة النمو الاقتصادي السعودي؟ وتنفيذاً لرؤية المملكة 2030 بتعزيز دوره في النمو الاقتصادي، ما هي المقترحات الكفيلة بجعل قطاع السياحة السعودي لاعباً ذا شأن في خطط التنمية المستقبلية؟

للإجابة على السؤال الأول، وفي حدود ما تتيحه الإحصاءات السنوية لمؤسسة النقد العربي السعودي، يمكننا الوقوف على دور قطاع السياحة في تحقيق النمو الاقتصادي السعودي واستدامته، من خلال مؤشر التوظيف السياحي، ومؤشر الانفاق السياحي، ومؤشر الميزان السياحي (يوضح هذا الميزان الفرق بين نفقات السياحة المغادرة والسياحة الوافدة).

فلقد تمكن قطاع السياحة من مضاعفة الوظائف في أنشطته المختلفة 3,5 مرة تقريباً؛ إذ زادت الوظائف المتاحة في الفنادق، والمطاعم، والمقاهي، ووكالات السفر والسياحة، وخدمات نقل المسافرين، والخدمات الترفيهية، بين عامي 2005م، و2017م من 285 ألف وظيفة لتصل إلى حدود مليون وظيفة. وتعكس هذه البيانات الأداء المتميز لقطاع السياحة في استيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل السعودي.

وعادة ما يتسبب القطاع السياحي في زيادة الانفاق الاستهلاكي؛ وهو ما تثبته بيانات إنفاق السياحة الداخلية في السعودية. فلقد تضاعفت هذه النفقات 2,8 مرة تقريبا في الفترة 2005-2017م، لتبلغ 145,7 مليار ريال في العام 2017م.

إلى هذه النقطة من التحليل، يبدو أن قطاع السياحة السعودي قادر انجاز النمو؛ بسبب قدرته على زيادة التشغيل والإنفاق، لكننا لا نستطيع أن نجزم بدوره في استدامة هذا النمو إلا من خلال تحليل أوضاع الميزان السياحي، وتحديد مدى قدرته على جلب وتوطين التكنولوجيا المتقدمة. فبيانات الميزان السياحي تشير إلى تفوق معدل نمو الإنفاق على السياحة المغادرة للمملكة مقارنة بمعدل نمو الانفاق على السياحة الوافدة إليها، وبما خلق عجزاً في الميزان السياحي خلال الفترة 2009-2016م. إلا أنه بداية من العام 2017م عاد الوضع للتحسن، وقد شهد الميزان السياحي فائضاً لصالح السياحة الوافدة؛ بسبب التراجع الحاد في نفقات السياحة المغادرة، وليس لنمو نفقات السياحة الوافدة. لكن ماذا عن دور قطاع السياحة في توطين التكنولوجيا؟

ورغم أننا لا نملك بيانات تفصيلية عن التكنولوجيا التي استطاع قطاع السياحة السعودي توطينها، إلا أنه من المستقر عليه أن قطاع السياحة يرتفع فيها نصيب العنصر البشري مقابل انخفاض التكنولوجيا. ولذلك لا يعتبر كقطاع الصناعة في قدرته على توطين التكنولوجيا الحديثة، اللهم إلا بعض طرائق تكنولوجيا الاتصال، والدعاية، والتسويق، وغيرها. وهي نوعية تحتاج إلى البرمجيات Soft Wear أكثر من حاجتها للتكنولوجيا المادية Hard Wear.

وفي ضوء ذلك، وبقدر معقول من الثقة، يمكن القول إن قطاع السياحة السعودي يستطيع أن يعزز من النمو الاقتصادي المحقق، لكن ستنخفض درجة ثقتنا في الادعاء القائل بقدرته على استدامة هذا النمو. ولذلك سنقترح في المداخل التالية بعض العوامل التي نراها ضرورية لجعل قطاع السياحة السعودي مُنفذاً لرؤية المملكة للعام 2030، وخادماً لخطط التنمية المستقبلية فيها.

المدخل الأول: أن يُمنح وزن نسبي مرتفع لتنمية لأنشطة السياحة الثقافية والتراثية ضمن خطة تطوير قطاع السياحة السعودي، والوزن النسبي الذي نقصده هنا هو زيادة الدعم المقدم لأنشطة الاستثمار في تأهيل التراث الثقافي السعودي، سواء كان بدعم البنية الأساسية في مواقع التراث الثقافي، أو المساندة الترويجية لهذه المواقع؛ بهدف خلق طلب فعال على المنتجات التي ستقدمها الشركات المطورة لهذا النشاط، كي تصبح مجدية استثمارياً.

المدخل الثاني: الاهتمام بنقل المهارات العمالية والأنظمة الإدارية الحديثة للأنشطة المختلفة في القطاع السياحي، ودون الإخلال بالضوابط الاقتصادية والاجتماعية المختلفة. وحتى يمكن توطين المهارات العمالية؛ يتعين الاهتمام بنوعية التكنولوجيا المستخدمة في قطاع السياحة، والتأكد من توافقها مع الطبيعة الخاصة لهذا القطاع، والتأكد من قدرتها على تحقيق وفورات في انتاج الخدمات السياحية المتطورة.

المدخل الثالث: تعزيز المشاركة المجتمعية في أنشطة قطاع السياحة، وخصوصاً في الأقاليم والمناطق المحيطة والمجاورة للمواقع التراثية والسياحية. ولتدعيم هذه المشاركة يتعين على القطاع الحكومي تحفيز إستراتيجية المشاركة الاستثمارية مع القطاع الخاص؛ للاستفادة من القدرات المالية والتنظيمية التي تمتلكها المؤسسات الاجتماعية قريبة الصلة بالقطاع السياحي، وخصوصا السياحة الثقافية.

المدخل الرابع: أن تجتهد الجهات الحكومية المسؤولة عن تنمية قطاع السياحة في تطوير "ميثاق سياحي" ينظم المسؤولية الاجتماعية للشركات العاملة في قطاع السياحة، ويستهدف الحفاظ على البيئة الحاضنة لهذه الشركات.

ومن خلال هذه المداخل، يمكن لقطاع السياحة أن يرتقي دوره في تعزيز النمو الاقتصادي السعودي، وأن تزداد مقدرته على استدامة هذا النمو. ودون أن نغفل أن النظرة التنموية لهذا القطاع تراه مُساند لعملية التنمية الاقتصادية، وليس عمادها!

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة