أهمية البيروقراطية

ظهرت البيروقراطية في العديد من الحضارات القديمة، كالحضارة الصينية، والمصرية، والرومانية؛ وقد برز هذا النوع من التنظيم لتحقيق أهداف وغايات محددة، ولم يظهر من أجل الرغبة في التنظيم من أجل التنظيم ذاته.  لقد أدركت هذه الحضارات أن التنظيم البيروقراطي هو المفتاح الرئيسي للنجاح وتحقيق الأهداف، وهو الأمر الذي مكّن قدماء الصينيين من تحقيق مستويات متقدمة من الإنجازات الحضارية والحفاظ على ترابط الإمبراطورية المترامية الأطراف، عن طريق البيروقراطية المعتمدة على الاختبارات المكتوبة؛ لاختيار كبار موظفي الخدمة المدنية في الدولة. كما تمكّن قدماء المصريين من بناء الأهرامات؛ بسبب البيروقراطية. كذلك سيطر الجيش الروماني على مساحات شاسعة من العالم؛ نتيجة اعتماده أيضًا على التنظيم البيروقراطي.  وبالطبع لا يمكن مقارنة هذا التنظيم التقليدي للإدارة والعمل بالبيروقراطية الحديثة الفاعلة، على الرغم من تأثيره الواضح في تلك الحضارات.

​للبيروقراطية في العصر الحديث الدور الأبرز في نمو وتطور القطاعين العام والخاص في الحضارة الغربية، ولعل المثال الأبرز للتنظيم البيروقراطي الحديث في القطاع العام هو نجاح الدولة الألمانية في بناء مؤسساتها المختلفة وفق هذا التنظيم. وقد ألهم هذا النجاح المنقطع النظير عالم الاجتماع الألماني "ماكس فيبر" من أجل تحديد العناصر المثاليّة للبيروقراطية الحديثة، والتي لا يكاد يخلو منها أي مرجع علمي رئيسي في مجال علم الاجتماع التنظيمي ومجالات الإدارة المختلفة.  ومن أهم السمات التي تميز البيروقراطية الحديثة عن البيروقراطية التقليدية-التي برزت في الحضارات القديمة-هي أنها نظام سلطة قانوني عقلاني يفصل بين المركز الوظيفي وبين شاغره من خلال إتباع الأنظمة الرسميّة والاعتقاد بأهميتها. كما أن الولاء والشرعية في المنظمة الحديثة ليس للأشخاص بل للقوانين الرسمية المكتوبة.  والسلطة في النظام البيروقراطي الحديث هي سلطة تراتبية بناء على الخبرة أو الكفاءة أو الاثنين معًا، وهي سلطة تنظيمية تُولِي التخصص أهمية كبيرة. وقد أوضح "ماكس فيبر" أن البيروقراطية نظام معرفي في الوقت نفسه؛ حيث تتميز بالمعارف التقنية التي تميز العاملين في المنظمة مما يسهم في السرعة والفعاليّة لإنجاز الأعمال المناطة بهم. 

وللبيروقراطية الحديثة أهمية في المنظمات العامة والخاصة، وهي أهمية تزداد مع تقدم المجتمع وزيادة الكثافة السكانية؛ فمن المستحيل على الحكومات تقديم الخدمات لمواطنيها دون اللجوء للنظام البيروقراطي. وهو الأمر الذي ينطبق على جميع المنظمات الربحيّة التي تعتمد في تعاملاتها المختلفة على البيروقراطية، وذلك من خلال وجود نظام يحدد الصلاحيات والمسؤوليات بوضوح ويفصل بين الملكية الخاصة وممتلكات المنظمة، ويعتمد على التعيين في المناصب بناء على الخبرة والمؤهلات ونحو ذلك من السمات التي تحقق السرعة والدقة والإنجاز، بغض النظر عن الاعتبارات العاطفية والجوانب الشخصية.     

وبالرغم من أنه من السهولة تسليط سهام اللوم والنقد على البيروقراطية، خاصة في القطاع الحكومي، كما يشيع كثيرًا في الصحف وغيرها؛ بذريعة أنها سبب تعطيل الأعمال، لكن من الصعوبة على المنتقدين تقديم بديل فعّال لإدارة الأعمال في المنظمات العامة والخاصة.  وفي حقيقة الأمر يعود أحد أهم أسباب تعطيل الأعمال في المنظمات عمومًا إلى عدم الالتزام بالاعتبارات الرئيسية للبيروقراطية، كالتعيين والولاء الإداري؛ بناءً على العلاقات الشخصية والاجتماعية وعدم الفصل بين الأشخاص وبين الأنظمة الرسميّة التي تحكم سير العمل ونحو ذلك من العوامل المكونة بطبيعتها للفساد التنظيمي.    

وللبيروقراطية أهمية كبيرة في العصر الحديث؛ لأنها تحد من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين العاملين في المنظمة، وهي ما أسماه ماكس فيبر بـ"leveling of economic and social differences".  وهذا غير مستغرب؛ لأنها في الأصل نظام قانوني عقلاني يعتمد في جوهرة الكفاءة والمساواة أو حسب تعبير "فيبر" إتاحة الفرص للجميع للتوظيف "universal accessibility of office" بغض النظر عن الخلفيات الاجتماعية للمتقدمين للعمل. فليس هناك مميزات موروثة أو اعتماد على الحالات الفرديّة في أداء العمل، بل هناك تعيين أساسه الجدارة والمساواة التامة أمام سلطة القانون.


 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة