المسؤولية الاجتماعية

​​أضحت "المسؤولية​​ الاجتماعية" ذات أهمية بالغة على كافة المستويات، وقد حثنا ديننا الحنيف على التمسك بها والانخراط في ركابها؛ باعتبارها أحد أهم المفردات للتنمية المجتمعية، وصارت من مؤشرات جودة الأداء للمؤسسات المختلفة، وتُدر علسيها أرباحاً على المدى الطويل. فهي إستراتيجية أو سياسة تتبناها الحكومات، والمؤسسات، والأفراد؛ لضبط سلوكهم وأنشطتهم ولتحقيق التوازن بين مصالحهم الخاصة، والمصلحة العامة. وقد ظلت برامج المسؤولية الاجتماعية لعقود مجرد أنشطة طوعية للأفراد والشركات؛ حتى انتبهت المنظمات الدولية لأهميتها مؤخراً وأدركت دورها في رقى الجنس البشرى والمحافظة عليه من الفناء. وأخذت بدورها تحث الحكومات، والشركات، والجامعات على تحسين سجلها في العمل الخيري والتنمية المجتمعية والمحافظة على البيئة واستدامة الموارد الناضبة.

ومن مفردات المسؤولية الاجتماعية للشركات رعاية الأنشطة الخيرية، وتقديم منتجات أخلاقية، وتنظيم حملات تسويقية خيرية بموجبها تتبرع الشركة بنسبة من الإيرادات لغرض اجتماعي معين. وعربياً واسلامياً، تشمل المسؤولية الاجتماعية تقديم منتجات، خدمات لإشباع حاجات اجتماعية؛ مثل إطعام المحتاجين، وسقيا المياه، ومحو الأمية، والتوعية والإرشاد، والتدريب وتحفيظ القرآن، وتطوير البرامج والمنتديات الإلكترونية الاجتماعية، وهو ما يطلق عليه اصطلاحا السلع الاجتماعية "Soc​​ial Goods".

وتستضيف ميادين المسؤولية الاجتماعية حروباً أخلاقية ضد السلع الضارة مثل الإرهاب، والفساد، والتلوث، والتدخين، وشرب الخمر، ولعب الميسر، والمشروبات الكحولية، وكلها أشياء محرمة إسلامياً، وتُخالف القيم والعادات والتقاليد والثقافة السعودية.

وتشير الدراسات الحديثة الى أن برامج المسؤولية الاجتماعية للشركات تزيد الأرباح في الأجل الطويل، وتجذب العملاء، وتحافظ على الموظفين والكفاءات. فالموظفون الجيدون يتطلعون إلى العمل في وظائف لها أثر اجتماعي إيجابي في شركات تشاركهم نفس القيم، وتسمع لآرائهم، وتقدر إنجازاتهم. وبحسب "جيروين فان دير فير"-المدير التنفيذي لشركة "شيل"-ومن الآثار الإيجابية للمسؤولية زيادة ثقة المجتمع بمنتجات الشركة وخدماتها وبرامجها، فضلاً عن دورها البارز في الحد من المخاطر التجارية والقانونية ورفع قدرتها على زيادة رأس المال.  ومن فرط أهميتها في عوالم المال والأعمال يطلق عليها أحياناَ مصطلحات بنكهات بيئية وأخلاقية من قبيل "استدامة الشركات"، و"ضمير الشركات"، و"المواطنة المؤسسية"، أو "الأعمال المسؤولة".

وعليه، قامت كثرة من المؤسسات بإدراج الإنجازات الاجتماعية والبيئية ضمن مؤشرات الأداء التقليدية، فيما يعرف اصطلاحا بـ "الحصيلة الثلاثية Triple bottom line"التي تحظى باهتمام خاص من الأمم المتحدة، ومنظمات الجودة العالمية. كما تنافست 46 جامعة عالمية على تقديم درجات ومساقات علمية في المسؤولية الاجتماعية للشركات؛ ومنها جامعات: "ليفربول"، و"برمنجهام"، و"روتردام"، و"برلين"، و"لندن"، و"أمستردام"، و"روما". وهكذا أضحت المسؤولية الاجتماعية أحد البرامج العلمية المرموقة للجامعات، وضمن الخيارات الإستراتيجية التي توظفها الشركات؛ لتحقيق مزايا تنافسية بعد أن كانت مجرد نزعه أخلاقية داخلية.

جذور المسؤولية الاجتماعية قبل الإسلام

وتؤكد القراءة المنصفة للتاريخ على أن المسؤولية الاجتماعية-بمفهومها الحديث-نشأت منذ عصر ما قبل الاسلام وعظم شأنها لدرجة أنها أصبحت أحد أهم ميادين المنافسة والتفاخر والعزة بين القبائل العربية. فتاريخ العرب حافل بالعطاء والمروءة والإقدام منذ قيام نبي الله ابراهيم وولده إسماعيل (عليهما السلام) برفع قواعد بيت الله الحرام. ومع استقرار قبيلة قريش بالبلد الأمين وتوافد الحجيج إليها أُسندت الرفادة إلى بنى نوفل، والسقاية لبنى هاشم، في حين تولت قبيلة بنى عبد الدار سدانة الكعبة، ولا زالت في بنى شيبة حتى الآن. ولم تقتصر المسؤولية الاجتماعية لِعُمًار أم القرى على خدمة ضيوف الرحمن؛ بل شملت أنشطة خيرية أخرى مثل: دفع الديات، وتسديد الديون المتعثرة فيما عرف بـ "الأشناق"، وأوكلت هذه الوظيفة لقبيلة بني تيم. ولنتذكر أن قبائل قريش قبل الاسلام حشدت فرسانها وأشاوسها في تحالفات عسكرية لنصرة المظلومين، وأشهرها حلفي المطيبيين، والفضول؛ مما يدلل على أن أجدادنا العرب سبقوا العالم في ساحات المسؤولية الاجتماعية في الحروب.

فسيفساء المسؤولية الاجتماعية السعودية

ثم بفضل تعاليم الإسلام زادت مصارف العطاء وأعمال البر والمسؤولية الاجتماعية أمام المجتمع الإسلامي والسعودي؛ ومنها الزكاة، والوقف الخيري، والصدقات، والنذور، والعقيقة، والأضاحي، فضلاً عن صلة الرحم، وحقوق الجار، وحث الإسلام على كافة أنواع البر تجاه المسلم وغير المسلم.

ويعتبر الوقف الخيري أيقونة الصدقات ودُرة أعمال البر وأدومها. ويقصد به بذل الشخص عقاراً، أو مزرعة، أو عيناً معينة، وتخصيص ريعها لأحد المصارف الخيرية مثل: إعاشة طلبة العلم، ورعاية المساجد، وإطعام الفقراء، والصائمين، وخدمة ضيوف الرحمن، وسقاية الماء، وغيرها. ويعد مسجد قباء أول وقف خيري في الإسلام، تلاه المسجد النبوي بالمدينة.

وبنظرة فاحصة نجد أن مصارف الوقف السعودي تتنوع لتشمل جميع أعمال البر مثل: مشروع "وقار" المخصص للقرآن الكريم، وجمعية إرواء القائمة على توفير مياه الشرب، والمكتب التعاوني للدعوة والإرشاد لتوعية الجاليات ودمجهم في أنسجة المجتمع السعودي. ويعد مشروع "كافل" للأيتام مثالاً آخر على كرم وشهامة الشعب السعودي، ولا يفوتني ذكر حادثة غرق مبتعثين سعوديين في نهر "شيكوبي" أثناء محاولتهما إنقاذ طفل أمريكي من الغرق.

وتشير الدراسات الى أن نسبة الأوقاف السعودية المخصصة للأضاحي تصل الى 19%؛ في حين أن المساجد تستحوذ على 4% من الوقف السعودي؛ بينما يوجه 0.5% منه إلى طلبة التعليم الجامعي. وعليه يحتاج الأمر إلى التوعية بضرورة تنويع مصارف الوقف بما يتواكب مع التطورات الحضارية الحديثة ليشمل برامج التدريب، والتنمية البشرية، والتنمية الزراعية، والتطوع الإلكتروني، ودعم الابتكار، والتقنية، وريادة الأعمال. فهناك مثل صيني شهير يقول "لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطاد".

وتعتبر المسؤولية الاجتماعية أحد مكونات الثقافة التنظيمية للشركات السعودية ومنبع فخرها ومصدر عزها؛ فمثلاً استثمرت شركة "سابك" السعودية أكثر من 3 مليار ريال سعودي في برامج المسؤولية الاجتماعية منذ عام 2003م، وذلك من خلال مبادرة "نرتقي" التي تركز على العلوم، والتقنية، والصحة، والزراعات المستدامة، والمياه، وحماية البيئة. كما تمول شركة "أرامكو" مجموعة كبيرة من برامج المسؤولية الاجتماعية داخل المملكة وخارجها. وعلى نفس المنوال، دشنت مجموعة "صافولا" عدة برامج اجتماعية للتدريب ورعاية ذوي الاحتياجات الخاصة ودعم رواد الأعمال. ويعتبر الشيخ سليمان الراجحي أيقونة العمل الخيري والمسؤولية الاجتماعية في العالم الإسلامي ويقدر البعض وقفه الخيري بــ 45 مليار ريال سعودي. وأشارت التقارير إلى أن حجم حصيلة الذكاة التي دفعتها الشركات السعودية بلغت 15 مليار ريال العام الماضي، وتقوم الدولة نفسها بجمعها وتوزيعها على المحتاجين. فضلاً عن ذلك، فإن السعودية تحتضن أكثر من 100 منظمة خيرية تدعم العمل الخيري وترعى فعالياته وتمول مشروعاته حسب إحصائيات الشبكة السعودية للمسؤولية الاجتماعية.

زد على ذلك أن البلد الحرام قدم للعالم حزمة فريدة من المنتجات الاجتماعية مثل المصارف الإسلامية، والتأمين التعاوني، والنظام الإلكتروني لحساب الذكاة، ومنصة "شمس التعليمية" التي توفر-بصورة مجانية-مئات الآلاف من الشروحات، والمواد التعليمية، والمقررات والكتب الدراسية.

علاوة على ذلك، جادت حكومة خادم الحرمين الشريفين بمشروع أضاحي لتنظيم الهدى والفدية والعقيقة والأضاحي وذبحها نيابة عن المؤمنين وتوزيعها على فقراء 25 دولة إسلامية، بالإضافة إلى فقراء الحرم والمملكة. ويعمل في هذا المشروع العظيم أكثر من 40 ألف فرد من الجزارين، والأطباء، والشيوخ، وعمال الشحن والتفريغ.

وفى السياق نفسه، تبذل الحكومة السعودية كل عام كافة الموارد العينية والمالية والبشرية والفكرية في الدولة لخدمة ضيوف الرحمن، وذلك تحت رعاية خاصة من خادم الحرمين الشريفين"يحفظه الله". وقد وصل عدد المتطوعين في برنامج "كن عوناً للحجاج" لنحو 4 آلاف متطوع في موسم الحج الماضي. توزعت مهامهم على استقبال ضيوف الرحمن وتوديعهم، وتقديم الخدمات الميدانية، والدعم اللوجستي، والتوجيه والإرشاد، والرعاية الصحية، والاعلام الإلكتروني، والدعوة، والترجمة. وهذا مثال آخر على أن الشعب السعودي مقدام وكريم وعطاء.  

وفى مجال البيئة، يعتبر موقع "حراج دوت كوم" السعودي نموذج أعمال إلكتروني فريد من نوعه لتدوير المنتجات والحد من آثارها البيئية الضارة وتعزيز استدامة الموارد.

ونختم بالإشارة الى أن رؤية المملكة 2030 ترنو إلى نشر ثقافة المسؤولية الاجتماعية، وتعزيز الاستدامة، وزيادة حصة القطاع غير الربحي في المنظومة الاقتصادية وتنمية رأس المال الاجتماعي السعودي.

وفي ضوء ما تقدم، لن نكون مبالغين إذا قلنا إن المملكة تعتبر أكبر واحة في العالم للعطاء والتكافل والمسؤولية الاجتماعية والإحسان والبر بشكل عام. كما نخلص إلى أن فضيلة المسؤولية الاجتماعية متجذرة في الضمير الجمعي للشعب السعودي ومتأصلة في صلواتهم ونسكهم ومحياهم ومماتهم، فضلاً عن أنها تغلف السلع التي تنتجها شركاتهم. 

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة