الكاتب المتخصص وكتاب المقاولات

​تفتقر صحافتنا المحلية للكاتب المتخصص، فمن النادر جداً أن تجد الكاتب المتخصص في الاقتصاد، أو الإدارة، أو البترول، أو الطاقة، أو شؤون العمل، أو التربية، أو الصحة العامة، أو الأمن، أو الفضاء، أو علم النفس، أو القانون، إلى أخر القائمة من العلوم. وإذا وُجِد هذا الكاتب فهو نادر جداً. ولا يأخذ حقه من الاحتفاء والاهتمام.

وكون صحافتنا تتكئ على إرث تاريخي في تأسيسها قائم على الأدباء والمثقفين منذ عهد صحافة الأفراد. فإن النسق الكتابي استمر إلى اليوم على ما كان عليه منذ تلك الحقبة، وهي أن الكاتب يستطيع أن يتناول كل القضايا والموضوعات بنفس القدرة الكتابية. وهذا خطأ كبير وقعت فيه الصحافة المحلية ولازالت تمارسه للأسف. فما كان ينفع قبل ربع قرن لا يمكن قبوله في زمن الألفية الثالثة وثورة الاتصالات وتفجر المعلومات حالياً. فقد طوى الزمن ذلك الكاتب الجهبذ الذي يتناول اليوم موضوعاً سياسياً، وفي الغد يكتب عن غزو الفضاء، وبعده يطرح بتوسع قضية فصل التوائم وتفاصيلها الدقيقة، ثم يتناول في يوم آخر قضية الاحتراف الكروي وأسباب تعثرها!!! فهذا الكاتب الجهبذ الشامل أصبح من الماضي. ولكنه للأسف لازال هو الصوت الأبرز في صحافتنا ويصول ويجول فيها وفي دهاليزها ويبسط سطوته على صفحاتها.

والكاتب العالم نادر جداً في الصحافة الحديثة؛ ولكن لدينا هناك الكاتب (العلماء). أي الكاتب الذي يعادل مجموعة علماء (عند نفسه طبعاً) !! حيث يستطيع كاتب نقد الخدمات العامة أن يتحول بسرعة خاطفة إلى محلل سياسي من الطراز الرفيع حسب مفهومة. وهناك كتاب لديهم جرأة عجيبة في التصدي لكل موضوع، والحديث عن أي قضية وكأنهم متخصصون، بينما هم لا يفقهون (ألف، باء) هذا التخصص. وهؤلاء نشاهدهم يومياً في صحافتنا، وعلى شاشات التلفزيون. ولو وسائل الإعلام هذه أجرت دارسات مسحية سريعة عن هؤلاء الكتاب، ومدى تأثيرهم لدى المتلقين، أو حتى حجم مقروؤية أعمدتهم وزواياهم لعرفت الحقيقة التي لا تود معرفتها، ولا حتى الكتاب أنفسهم.

في الدول المتقدمة تعطي دور النشر الصحفي كاتب العمود الصحفي لديها مبالغ طائلة، وأحياناً يفوق ما يقبضه الكاتب من الصحيفة دخل الوزير أو رئيس مجلس الوزراء أو حتى رئيس الدولة؛ تقديراً من الصحيفة لهذا الكاتب ولقيمة ما يكتبه وتأثيره لدى شريحة القراء. يقابل ذلك كتاب بالمجان في صحافتنا المحلية ممن يقاتلون على ظهور أسمائهم فقط. ويكفيهم ذلك كمقابل لما يكتبونه. وكثير من الصحف ترحب بهم؛ لأنهم لا يكلفون خزائنها-حتى ولو لم يكن تأثير-وتمتلئ صحافتنا بالكتاب الذين لا أثر ولا تأثير لهم، ولكنهم وُجِدوا لملء الفراغ واكتمال صورة الصحيفة بفنونها المختلفة.

ومعلوم أن للصحافة دوراً تثقيفياً وتنويرياً، وتلعب دوراً رئيساً في صناعة الخبر، وبحث ما وراء الحدث بالتعليق والتحليل، والتقرير. وهذا ما يقع على عاتق الكاتب المتخصص، سواء كان سياسياً أم اقتصادياً أم طبياً، أو باحثاً في علوم الطاقة، أو البحار، الجريمة، أو الإرهاب، أو القانون. وهذا ما يحدث في الصحافة العالمية والحديثة. ولكن لدينا الكاتب نفسه يمكن أن يتناول بالتفصيل كل تلك الموضوعات وحده. إنه أشبه بمقاول (معوله) قلمه.

وغير الكاتب، هناك الصحفي والمراسل المتخصص. وهي وظائف صحفية دقيقة ومهمة، ومن صلب التوصيف المهني الصحفي، ولكنها للأسف غائبة. فمنتدى "دافوس" الاقتصادي يمكن أن توفد الصحيفة (مدرس) لتغطيته بعد أن يأخذ إجازة من عمله الرسمي؛ لأنه يعمل في الصحيفة متعاوناً!! وموظف علاقات عامة في جهاز ما يمكن أن يتحول فجأة إلى مراسل حربي؛ لأن الصحيفة ترغب في تغطية ما يدور في الصفوف الأمامية على أرض الميدان لمدة أسبوع!! وعندما يكون الخلل المهني بهذا الحجم؛ لا تسأل لماذا صحفنا اليوم أصبحت تكافح من أجل البقاء وبات مستقبلها مجهولاً وبقائها مهدداً.

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة