سوق العمل ومجتمع المعرفة..تغيرات وتحديات وظيفية متلاحقة
  • ​​​​​​​​د.محمد القنيبط: معرفة ميول الخريجين نحو التخصص والمهن المستقبلية له دور مهم في التحول إلى المجتمع المعرفي
  • أ.د.حمد اللحيدان: تحويل المجتمع السعودي إلى مجتمع معرفي يكون عبر تفعيل أنشطة توليد المعرفة
  • د.عبدالله المغلوث: تطورت المتطلبات والمهارات المتوقع من الخريج امتلاكها وسوق العمل أصبح أكثر تخصصاً وتطلباً
  • د.ابتسام الباحوث: إنتاج المعرفة يكون من خلال إقامة منظومة وطنية للابتكار والإبداع تقوم على إصلاح جذري للتعليم

المشاركون في القضية:

  • د.محمد القنيبط عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود، عضو مجلس الشورى سابقاً
  • أ.د.حمد اللحيدان عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود، مشرف على كرسي أبحاث "السيرفكتانت"، وكاتب في جريدة "الرياض"
  • د.عبدالله المغلوث عضو اللجنة السعودية للاقتصاد، وعضو لجنة الاستثمار والأوراق المالية بغرفة الرياض
  • د.ابتسام الباحوث سيدة اعمال، عضو المجلس التنسيقي للقوى العاملة

 

تشهد المملكة العربية السعودية حالياً نهضة شاملة، وتسير بخطى واثقة نحو مستقبل بناء اقتصاد أكثر تنوعاً، وفق رؤية "2030م" الطموحة، وتتطلع لما بعد عصر النفط-خاصة مع التحول الكبير في مقومات الاقتصاد العالمي في العقدين الأخيرين-والرغبة في التحول إلى مجتمع المعرفة وفق المتطلبات، والظروف والتطورات الدولية، والتي تغير فيها مفهوم المنافسة العالمية، لتصبح المعرفة أساس المزايا التنافسية بين الدول.

وهنا تبرز الأسئلة: كيف يتم التحول من المجتمع الحالي إلى مجتمع المعرفة كهدف مهم تبني له الإستراتيجيات والخطط؟ وهل لا تزال هناك فجوة بين مخرجات التعليم العام والعالي وسوق العمل المحلي؟ وكيف يمكن تطوير الكوادر والقيادات إلى مستوى معرفي مناسب يلبي الحاجة المتسارعة في العمل اليومي، واحتياجات سوق العمل وفق متغيرات التعليم، والتنمية، والعلوم، والتكنولوجيا؟ وهل في حال عدم التحول إلى مجتمع معرفي سنعاني مستقبلاً من البطالة المقنعة أو الواضحة على اعتبار أن الخريجين لن يكونوا جاهزين لسوق العمل؟

تجارب عالمية

وفي هذا الجانب، تشير كثير من الدراسات المتخصصة إلى تجربة سنغافورة كرائدة في التحول من مجتمع التعليم إلى المعرفة التي حققت للاقتصاد السنغافوري أعلى المراتب الاقتصادية وعززت محاور التنمية؛ فبدأت أولاً بإصلاح التعليم، وتأسيس هوية وطنية متماسكة، ونقل الاقتصاد من الاعتماد المبالغ فيه على المتاجرة إلى اقتصاد حديث، وتطلب ذلك بناء نسق حديث للتعليم وفق بنية مؤسسية لدعم البحث العلمي والتطوير التقني في جميع قطاعات المجتمع. كذلك كان تحول النظام التعليمي الفنلندي منذ 40 عاماً محفزاً أساسياً في إطار خطة للتعافي الاقتصادي والتحول لمجتمع المعرفة، حيث أصبح الطلاب الفنلنديون حالياً الأفضل قراءة على مستوى العالم، وتصدروا طلبة العالم في الرياضيات، واحتل النظام المدرسي الفنلندي صدارة قوائم الترتيب الدولي للأنظمة التعليمية؛ مما انعكس على الازدهار الاقتصادي. كما أشارت دراسة للمنتدى الاقتصادي العالمي صدرت في عام 2017م إلى أن التفكير النقدي في التعليم من أكثر المهارات التي يحتاجها المجتمع المعاصر، وسوق العمل لمواكبة موجة التطور التكنولوجي نحو بناء مجتمع المعرفة الحديث.

تطور سوق العمل

عن ذلك يقول د.عبدالله المغلوث عضو اللجنة السعودية للاقتصاد، وعضو لجنة الاستثمار والأوراق المالية بغرفة الرياض: "لقد خطت المملكة خطوات جادة من أجل تطوير النظام التعليمي؛ بغية تحقيق مجتمع المعرفة، وأبرزها: انشاء مشاريع مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله للموهبة والإبداع، والإستراتيجية الوطنية لوزارة التربية والتعليم للتحول نحو المجتمع المعرفي إلا أن تطور المجتمع، وسوق العمل والمتطلبات والمهارات المتوقع من الخريج السعودي امتلاكها متعددة، وأصبح سوق العمل أكثر تخصصاً وتطلباً؛ مما خلق حاجة إلى أن يصبح الخريج، بدوره، أكثر تخصصاً ويتعدى تعليمه الحفظ والتسميع، ويتبنى مستوى أعلى من التفكير والتحليل والاستنتاج والإبداع وخلق حلول واتباع منهجية البحث العلمي؛ لتأمين مستقبل واعد ووظائف لائقة".

ويضيف المغلوث: من أهداف إستراتيجية التحول إلى المجتمع المعرفي، تفعيل دور القطاع الخاص في تنفيذ برامج التدريب، والتوظيف، وتحفيز الجامعات وقطاعات التدريب الأهلي والحكومي؛ للحصول على برامج تدريب عالية الجودة، ومتقدمة التقنية؛ كي ترفع من مستوى للخريج، فالتدريب الذي يستهدف الفرد، ويغفل عن المنظمة، لا يحقق النتائج المرجوة كاملة، ولذا فمضمار إصلاح التعليم أولا هو وسيلة متجددة دوما للهندسة المجتمعية الهادفة إلى تحسين نسق التعليم ومنظومة الإبداع والابتكار؛ مما سينقل  الاقتصاد والمجتمع من حياة وقيم بدائية إلى إضافة قيمة تقنية عالية.

ويؤكد المغلوث أن المعرفة هي القاعدة الأساسية اللازمة لإنجاز مشروعات التنمية الإنسانية في شتى المجالات؛ لأنها وسيلة ضرورية لتيسير وتنويع الخيارات المتاحة أمام الأفراد لتنمية قدراتهم وطاقاتهم وإمكانياتهم والسمو بأوضاعهم، ويتوقف الفرق بين مجتمع معرفي في دولة ما والمجتمع المعرفي في دولة أخرى على مستويات ومعدلات الأنشطة المعرفية الموجودة في كل منهما، وإمكانيات الحصول على المعلومات والقدرة على استخدامها بكفاءة وتسخيرها في خدمة وتحقيق أهداف معينة، أهمها مواكبة متطلبات سوق العمل.

المهن المستقبلية

ومن جانبه، يرى د.محمد القنيبط عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود، عضو مجلس الشورى سابقاً أن من أهم عناصر إستراتيجية التحول إلى المجتمع المعرفي اكتساب أفراده للمهارات المعينة لمواجهة التحديات، مع توفر اختبارات قياس التي تستخدم في تحديد مستوى الخريجين في نهاية المرحلة الثانوية، لتوجيه دخولهم إلى الجامعات المحلية، أو للابتعاث الخارجي، وهذه الاختبارات لا تقيس فقط مستوى المتقدمين في هذه المهارات؛ بل تشمل طيفا أوسع من المعارف.

ويذكر القنيبط أن معرفة ميول الخريجين نحو التخصص، والمهن المستقبلية لها دور مهم في التحول إلى المجتمع المعرفي؛ ولذلك فإن الإستراتيجية تأخذ في الحسبان إتاحة الفرصة لطلاب الثانوية؛ لتطبيق قياس الميول نحو التخصص الجامعي، بحيث يتمكن الطلاب من التخطيط المبكر للمرحلة الجامعية في التخصصات التي تناسب ميولهم، وتتجه الإستراتيجية إلى وضع إطار لدخول الجامعات يأخذ في الاعتبار بدائل التطور المهني، ومتطلبات سوق العمل.

ويقول القنيبط: "إن التغير التكنولوجي من المحركات الأساسية للنمو والتنمية، وإن التغيرات التكنولوجية الطارئة على سوق العمل ستؤدي إلى إلغاء بعض الوظائف، وخلق وظائف جديدة، وتعديل شكل بعض الوظائف الحالية، ويرافق هذه التغييرات سلسلة من التحديات للخريجين الذين سيدخلون سوق العمل؛ مما يجعل الحاجة ملحة لنحصنهم بمهارات تواكب أحدث متطلبات السوق لتأمين فرص عمل لائقة لهم، فسوق العمل بحاجة إلى خبرات ومهارات لم تكن موجودة قبل 5 سنوات، وستخلق حاجات مستقبلية أيضا؛ فالرأسمال البشري للدول يقاس بمعيار مدى تأقلم الناس مع التغييرات وقدرتهم على حل المشكلات والتحليل والبحث العلمي وإنتاج أفكار وحلول غير مألوفة، وهذه المعايير يجب أن تبدأ في المدرسة ثم الجامعة ثم سوق العمل".

التعليم والخطوات العملية

أما د.ابتسام الباحوث سيدة أعمال، وعضو المجلس التنسيقي للقوى العاملة.  فترى أن إنتاج المعرفة، من خلال إقامة منظومة وطنية للابتكار والإبداع، تقوم على إصلاح جذري للتعليم، وإقامة البنية المؤسسية لدعم الابتكار والإبداع، بما يمكّن المجتمع من المنافسة على أرقى المعايير الدولية في جودة التعليم، ويؤسس لشخصية وطنية إيجابية، ومبادرة تكون عمادا لاقتصاد وطني متنوع. وتؤكد الباحوث على أنه ليس هناك أفضل من التعليم الجيد المتوافق مع منظومة قادرة على الإبداع والابتكار كأداة للهندسة المجتمعية وإقامة مجتمع المعرفة، وتحسين وتجويد مسار التعليم، كمصدر متجدد للقيمة والثروة فى العالم المعاصر".

وتشير الباحوث إلى أن التحول إلى مجتمع المعرفة يتطلب عدداً من الخطوات العملية والميدانية التي تضمن سلاسة التحول وتعميقه، ولعل من أهم هذه الخطوات ما يلي: الاهتمام بالفوارق والقدرات الفردية، بحيث يصبح المسار المستقبلي لكل خريج واضحاً وجلياً، والاهتمام بالمواهب؛ لمعرفة النوابغ وتوجيهها الوجهة الحسنة؛ ولعل إنشاء مؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهبة خير شاهد على الاهتمام الكبير الذي توليه قيادتنا الرشيدة للتميز والتفوق والنبوغ.

مجتمع المعرفة

وفي السياق ذاته يلفت أ.د.حمد اللحيدان عضو هيئة التدريس بجامعة الملك سعود، مشرف على كرسي أبحاث "السيرفكتانت" إلى أن مجتمع التعلم هو البوابة الرئيسة لمجتمع المعرفة الذي تحكمه عدة أمور لعل من أبرزها: الانتشار السريع والتطور المتسارع للعولمة خاصة بعد انشاء المنظمة العالمية للتكنولوجيا wto الذي أدى إلى اتساع سوق العمل الدولي وتطوير أساليب الاتصال المعرفي؛ وبالتالي زيادة التبادل الفكري والبشري والمادي"؛ ويوضح أن كل ذلك يأتي نتيجة للتطور التكنولوجي كنتيجة لقدرة الأفراد والشركات على خلق المعرفة وتبادلها والاستفادة منها. كما يؤكد اللحيدان أن خلق المعرفة وتبادلها والاستفادة منها من أهم العناصر التي تجعل للفرد اليد العليا في السوق التنافسية المعرفية على المستوى الدولي، وأن مستوى اكتساب المعرفة هو الآلية التي يقاس ويقوّم بواسطتها مستوى الكفاءة الإنتاجية والمقدرة المعرفية والثقافية الخاصة بالأفراد والمؤسسات؛ وهذا يعني أن العلوم والتكنولوجيا هي بوابات المعرفية التقنية التي تساعد على زيادة الكفاءة الإنتاجية وزيادة الاستفادة من المعرفة المتاحة، وكذلك فإن تعزيز دور الخبرة والمعرفة في العمل كفيل بتغيير شكل العمل وفرصه وأهدافه؛ وهذا يعني أن الوظائف في المستقبل سوف تتطلب قدرات خاصة من أهم مقوماتها الكفاءة والإبداع؛ مما يجعل الناس يتنافسون في تحقيق ذلك لأن فرص العمل سوف تكون للأقدر على خوض غمار المنافسة والفوز بها.

ويقول اللحيدان: "من ذلك كله يتضح أن مجتمع المعرفة يحتل حالة من التميز الفكري والمعرفي والتقني معزز بالتقدم العلمي والبشري، وهذا ما يمكن وصفه بـ "الثورة المتعددة المعاني والاتجاهات"، وعلى العموم فإنه لا يمكن القفز من فوق الحواجز؛ بل لابد من تذليل الصعوبات جنباً إلى جنب مع خلق بؤر اشعاع معرفية على امتداد ساحة الوطن؛ فتشكل كل منها نقطة استقطاب وانطلاق ولعل الجامعات والمدن الاقتصادية والمعرفية تشكل منظومة معرفية تقود نحو زرع روح التعلم واكتساب المعرفة، ومن ثم توليدها ونشرها وتحقيق الاستفادة منها، وهذا يتم من خلال البحث والتطوير لأساليب التعليم القائمة، ويشمل ذلك كلاً من: المنهج، والمعلم، والممارسة، وبعد ذلك وخلاله توفر فرص العمل التي تساعد على استمرار اكتساب المعرفة وتطورها من خلال ممارسة التخصص واستمرار التدريب على كل مستجد".

ويبين اللحيدان أن تحويل المجتمع السعودي إلى مجتمع معرفي يكون عبر تفعيل أنشطة توليد المعرفة، ونشرها والاستفادة منها، وجمع الخبرات، وإقامة المؤتمرات، ونشر ثقافة المعرفة والشراكة المجتمعية، وإننا بحاجة إلى المزيد من البحوث والدراسات والمؤتمرات والندوات التي تكشف الغطاء عن طبيعة هذا المجتمع وأهميته، ودوره في تطور الأمة، ومدى إسهام مؤسسات المعلومات في إرساء دعائم مجتمع المعرفة، فالحلول كثيرة وعملية، ومن أهمها أن تبقي الجامعات على توجهها المعرفي، وتقوم مؤسسات الأعمال بواجبات التدريب على رأس العمل، ففي الدول المتقدمة لا ينصرف التعليم الجامعي لملاحقة سوق العمل؛ بل الطالب يحصل على تأهيل نظري كامل، وبعد تخرجه يتقدم للحصول على وظيفة على أن يكون تدريبه على رأس العمل.


15/07/1439
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة