اترك مسافة آمنة

​في عرف البيروقراطيين و "العتاة" منهم على وجه الخصوص، يجب على الموظف وضع مسافة آمنة بينه وبين المساءلة!! وهذه المسافة هو من يقدرها. وجوداً وامتداداً.

ومعلوم أن عبارة "اترك مسافة آمنة" هي من العبارات المرورية الجميلة التي تبناها رجال المرور ضمن حملاتهم التوعوية لسائقي المركبات؛ ولكن البيروقراطيين المتشددين سبقوا أجهزة المرور في تبني مفهومها وإن لم يكن واضحاً أمامهم المعني اللفظي للعبارة بشكلها الظاهر، ولكنهم مارسوها كمفهوم ومبدأ يسيرون عليه ويتوارثونه جيلاً بعد جيل.

ففي دورة العمل الوظيفي هناك أعمال ومهام تتطلب الانجاز، وأحياناً السريع؛ ولكنها أمام أعضاء نادي "اترك مسافة آمنة" ستأخذ دورتها البيروقراطية كاملة، دون اعتبار لأهمية العمل وقيمة وقت إنجازه. فلابد لديه أن تكون الأوراق، والمذكرات والإحالات مرفقة، والتوجيهات مكتوبة، والتوقيعات مكتملة. ولا يمكن انجاز عمل، أو تقديم خدمة إلا وفق تلك الإجراءات؛ ذلك أن لديه هاجس "المساءلة"!! ويخشى أن يصله يوماً ما توبيخ أو لوم أو مساءلة عن خلفيات إنجازه لعمل ما وما هو السند النظامي أو القانوني!! وأين تلك الورقة أو ذلك التوجيه أو التوقيع.

وأصحاب "اترك مسافة آمنة" لا يعترفون بالتوجيه الشفهي، أو الهاتفي، وإذا وصله شيء من ذلك؛ حوله إلى كتابي بطريقة "إشارة إلى توجيهكم، إلى التفاهم الهاتفي .... وهكذا" ليعود إليه التوجيه الشفهي مكتوباً. فينشئ معاملة جديدة من أجل إنجاز معاملة جارية. !!

ومن أمضى حياة ليست بالقصيرة في الوظيفة، لابد وأن ظهرت أمامه حالات وجد من خلالها أن ثقافة حزب "اترك مسافة آمنة" على حق. وأن تشديدهم على اكتمال المعاملات وتحويل الشفهي منها إلى كتابي هو عين الصواب؛ ذلك أن بعض الموظفين الأكثر مرونة في التعاطي مع الإجراءات البيروقراطية تعرضوا لمواقف لا يتمناها أي موظف. من طلب إفادة، إلى مساءلة، وصولاً في بعض الأحايين إلى إحالة للتحقيق حسب حجم المرونة، أو "التجاوز" حسبما يصفه "المتشددون البيروقرطيون".

ففي الوظيفة هناك خيط رفيع بين "المرونة" و"التجاوز". لا يراه إلا ذوي الألباب من البيروقراطيين. وهؤلاء هم من يقدرون الحالات التي تتطلب المرونة في الإنجاز، أو التمسك بالخطوات البيروقراطية المشددة حتى ولو أدى ذلك إلى تأخير في الانجاز. وليس كل من تشدد في تطبيق الخطوات الإجرائية يسعى لحماية نفسه من مساءلات، أو عواقب غير محمودة تصيبه، بل هناك من يتمسك ويتقيد بالإجراءات رغبةً في تخفيف عبء العمل عليه. فبدلاً من إنجاز عشر معاملات يومياً لا ينجز سوى اثنتين، فيما يرد البقية بحجة نقص الأوراق المطلوبة، أو عدم اكتمال التوقيعات، أو عدم إرفاق التوجيه مكتوباً. !!

بل إن هناك فئة من الموظفين يتفننون في تعطيل المعاملات تحت تلك الحجج والذرائع. وهذه الفئة بدأت تنقرض-ولله الحمد-من المشهد الوظيفي والبيروقراطي؛ بفعل التقدم الطبيعي للعمل الإداري القائم على التطوير والتحديث وتبسيط الإجراءات، وتبني التوجهات الحديثة نحو التعاملات الإلكترونية. ولكن سيبقى أعضاء "اترك مسافة آمنة" حاضرون في المشهد وصامدون، وإن تقلصت مساحة تواجدهم أمام المراجع الخارجي؛ ولكن تواجدهم في المعاملات البينية داخل الجهاز الإداري الواحد قوي جداً. فلا يمكن أن يقدم خدمة إلا بمذكرة رسمية أو توجيه مكتوب من مديره المباشر. وليس خافياً أن مفهوم "اترك مسافة آمنة" ثقافة تُتوارث، ينقلها البيروقراطيون القدامى للأجيال التي تخلفهم؛ بل ويحرصون على تلقينهم هذه الثقافة من باب "لمصلحتك". وهناك من يسير على خطاهم، وهناك من يستقل ويخرج عن سيطرتهم ويكون حاذقاً في إدراك الخيط الرفيع بين المرونة والتجاوز، وكذلك الإهمال. 

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة