"وبـــــــاء القــــــرن"​

​​إنه الوحش الجديد الذي سيكون لزاماً مواجهته، خاصة أن العلماء الدارسين لهذا الوباء الخطير يقولون إن التعرض الطويل له يزيد من احتمالية الوفاة المبكرة بنسبة 26%؛ وذلك لأن الوقوع في براثن هذا الوباء يخلق تغيرات ليست صحية للإنسان في:

• النظام المناعي
• النظام العصبي
• نظام القلب والأوعية الدموية
وهذه فقط مجرد الآثار الجسدية لهذا الوباء، وإن الآثار النفسية والاجتماعية لا تقل خطورة. حسناً أنت بالتأكيد تتساءل الآن عن هذا الوباء الجديد الذي يصفه العلماء بأنه "وباء القرن الحادي والعشرين"..إنه "الوحدة Loneliness".
وإني أعلم من خلال تجاربي مع الناس حولي، سواءً في حياتي العملية داخل المعهد أو حياتي الخاصة خارجه، أنه من الصعب أن يعترف الإنسان أنه يشعر بالوحدة، خاصة في صيغتها العاطفية. والأصعب من ذلك الإقرار بأن الوحدة لها أثر نفسي مدمر على الإنسان بالرغم من أن هنالك أبحاث ودراسات نفسية ضخمة كلها تشير إلى الضرر البليغ للوحدة على الفرد والمجتمع في كل المجالات، خاصة الأبحاث النفسية التي ظهرت بعد جائحة كورونا.
وإن هذا الرفض للحقيقة العلمية التي تقول إن الوحدة تؤثر سلباً على الصحة العقلية والجسدية للفرد، وبالتالي المجتمع والإنتاجية في العمل؛ يعود إلى إدراك خاطئ لمصطلح "الوحدة". فالوحدة لا تعني أن تكون لوحدك، فقد يكون الإنسان بين مجموعة كبيرة من الناس ولكنه يشعر بالوحدة، وإنما نعني بالوحدة الشعور بغياب الاتصال الإيجابي مع الآخر (عاطفياً-اجتماعياً). 
أي غياب العلاقة العاطفية السليمة مع الجنس الآخر وغياب العلاقات الاجتماعية الدافئة مع الناس، سواء في العمل أو خارجه. ومما يزيد المشكلة تضخماً أننا نعيش بعد صدمة "كورونا" في مجتمع رقمي تعمقت فيه الوحدة بشكل أكبر؛ وذلك لأن التفاعل الإنساني المباشر يقل بشكل ملحوظ في العالم الرقمي مع ازدياد مدة التفاعل مع الأجهزة الذكية، إضافة إلى اضطراب العلاقة العاطفية بين الجنسين وتوترها في مجتمعنا، وهذا ما تؤكده نسب الطلاق المرتفعة. 
ولكن ما علاقة معهد الإدارة العامة بكل هذا؟
إن الأبحاث والدراسات الأكاديمية (خاصة أبحاث البروفيسور Cacioppo) الذي درس موضوع الوحدة لأكثر من 22 عاماً تؤكد أن الوحدة التي يعاني منها الفرد الإنساني في المجتمع الرقمي، خاصة بعد صدمة جائحة كورونا لها تأثيرات سلبية قوية تمس الجوانب التالية:
• الصحة الجسدية والنفسية للإنسان.
• الإنتاجية والأداء الوظيفي؛ فهنالك ارتباط بين الشعور بالوحدة وسوء الأداء الوظيفي وتدني مستوى الإنتاج، (مثال) جودة النوم تنخفض لدى الأشخاص الذين يعانون من الوحدة (العاطفية)؛ مما يسبب غياب متكرر أو حضور باهت للعمل.
• الكلفة الاقتصادية، حيث ترتفع تكاليف العلاج الجسدي والنفسي؛ وذلك لأن الوحدة مرتبطة بتغيرات سلبية في الجهاز المناعي مما يؤدي إلى ازدياد ظهور الأمراض، إضافة إلى أثرها النفسي كالقلق والتوتر والاكتئاب.
الحقيقة العلمية تقول إن "الوحدة" خطر متراكم، وهذا أمر يبعث القلق في الكثير من الباحثين النفسيين، بل وصل القلق من خطر الوحدة إلى مستوى الحكومات، ففي الثالث من مايو 2023م نشر الموقع الرسمي الأمريكي لقسم الصحة والخدمات الإنسانية (U.S Department of Health and Human Services) ، والذي يعد القسم المعني بالرفع من مستوى الصحة والرفاه للمجتمع الأمريكي، إنذاراً على لسان الجراح الأمريكي العام يشدد من خلاله على ضرورة مواجهة ما أسماه The Devastating Impact of loneliness and Isolation)) الأضرار المدمرة لوباء الوحدة والعزلة في المجتمع الأمريكي ويطالب بمواجهة هذا الخطر؛ نظراً للأضرار البليغة التي تسببها هذه الوحدة على الإنسان والمجتمع.
وختاماً، فإننا في مجتمعنا السعودي الرقمي الحديث لسنا بمعزل عن هذا الضرر، وأني أعتقد أن لدى المعهد فرصة كبيرة لتحقيق الريادة في هذا المجال (مواجهة وباء الوحدة وأثره على العمل)؛ بشرط أن نبدأ بالانتباه لهذا الخطر من الآن، مع الاعتراف بأنه لا يمكن تجاهل "الوحدة" كعامل نفسي مهم يؤثر سلباً على الإنتاجية والأداء الوظيفي للإنسان، إضافة إلى العمل على تحديث ثقافتنا العاطفية لخلق مناعة ضد وباء الوحدة. 




16/10/1446
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة