تتسارع وتيرة استخدامات الذكاء الاصطناعي بتقنياته وتطبيقاته المتنوعة، حيث برز دوره في الخدمات العامة واتخاذ القرارات الإدارية وتوسيع الإمكانات التقنية الحكومية. وقد استخدمته الحكومة الفيدرالية الأمريكية لتعزيز قدراتها مثل: الكشف عن الاحتيال، واتخاذ القرارات التنظيمية، والمشاركة المدنية. لذلك فمن المتوقع أن تلعب تصورات الموظفين الحكوميين ومواقفهم تجاه استخدامات الذكاء الاصطناعي دورًا مهمًا في استغلال كامل إمكاناتهم، وهي التصورات التي قد تؤدي إلى تسهيل التكامل والاستخدام الناجح لتقنياته، والعكس صحيح. وفي ضوء ذلك، أجرى "مايكل ج.اهن" و"يو تشي تشين" دراستهما التي نستعرضها معكم في هذا العدد بعنوان: "التحول الرقمي نحو الإدارة العامة المعزَّزة بالذكاء الاصطناعي: تصور الموظفين الحكوميين ورغبتهم في استخدام الذكاء الاصطناعي في الأعمال الحكومية"، والمنشورة في مجلة الإدارة العامة التي يصدرها معهد الإدارة العامة، وقام بترجمتها للعربية د.محمد بن عبدالهادي العتيبي.
أجرى الباحثان هذه الدراسة على عينة من الموظفين الحكوميين في الولايات المتحدة الأمريكية باستخدام موقع أمازون، وقبل أن نخوض في استعراض تفاصيلها ينبغي الإشارة إلى أن الدراسة تتكون من 9 محاور، يستهلها الباحثان بالمقدمة، يليها تعريفات وسمات الذكاء الاصطناعي، وتصوراته، ثم الإطار النظري للدراسة، ومنهجيتها، ونتائجها، ومناقشة للنتائج، والخاتمة والقيود، ويختتمانها بالمراجع.
خصائص وتقنيات معزِّزة
يؤكد الباحثان أنه لا يوجد تعريف مقبول على نطاق واسع لمصطلح الذكاء الاصطناعي، ورغم ذلك يستعرضان عددًا من التعاريف لبعض الخبراء والممارسين. ثم يتطرقان إلى أبرز سمات وخصائص الذكاء الاصطناعي، كالاستقلالية التي تعد ميزة كبيرة له؛ باعتبارها خاصية مميزة للذكاء البشري الذي يحاول محاكاته. كذلك هناك خاصية القدرة على التعلم، وهو ما يترتب عليه التطوير وصياغة الحلول التي ربما لم يفكر فيها البشر، وهو ما يتجسد في اختراع الروبوتات؛ مما يجعل استخدام الذكاء الاصطناعي أمرًا جذابًا. ويلفت الباحثان إلى أن للذكاء الاصطناعي تقنيات أخرى تعزز من فعاليته، خاصة مع ظهور التعلم الآلي الذي تم تمكينه من خلال النمو الهائل في البيانات وانخفاض تكلفة تقنيات التخزين على مستوى العالم، بالإضافة إلى ظهور تحليلات البيانات الضخمة. وقد عززت النجاحات التطبيقية المبهرة للشبكات العصبية الاصطناعية الذكاء الاصطناعي وأثرت في تطوره. كذلك تلعب التقنيات مثل البيانات الضخمة والحوسبة السحابية وإنترنت الأشياء وتقنية شبكات الجيل الخامس 5G دورًا مهمًا في تعزيز فعاليته. وبصفة عامة فإن الذكاء الاصطناعي يتطور بسرعة كبيرة مع وجود عدد كبير من تقنياته كالتعلم الآلي، والتعلم العميق، والشبكات العصبية، والتعرف على الأنماط، ومعالجة اللغة الطبيعية، وروبوتات الدردشة. في حين أن تقنيات مثل التحليلات اللحظية للمشاعر والترجمة الفورية للغات والألعاب الموجهة بالأفكار من المرجح أن تتحقق في غضون الـ 4 سنوات القادمة. وعلى المدى الطويل يتم البحث عن تقنيات أكثر تقدمًا مثل: الروبوتات الجراحية المستقلة، والمساعدين الشخصيين الروبوتيين، والأمن السيبراني الإدراكي، والحوسبة العصبية. وفي هذا الصدد يقرر الباحثان أن الذكاء الاصطناعي بتقنياته المعزِّزة وغيرها من التقنيات المرتبطة به من شأنهم إثارة الجدل في مجال الإدارة العامة.
تحديات ومخاوف
تطرح هذه الدراسة عددًا من التصورات، والتي بدورها تثير بعض المخاوف وترتبط بعدد من التحديات، والتي من بينها السؤال: إلى أي مدى سنسمح للذكاء الاصطناعي باتخاذ القرارات؟ وهو ما تجيب عليه بأنه حاليًا يبدو أن تقنيات الذكاء الاصطناعي أو الخوارزميات تتخذ قرارات ثانوية وبسيطة، إلا أنه مع زيادة توافر البيانات وتطور أدوات تعلم الآلة، فربما تبدأ هذه التقنيات في اتخاذ قرارات أكثر أهمية تتعلق بالسياسات وما قد يترتب عليها من عواقب. ويلوح في الأفق سؤال مهم: كيف سيصدر الذكاء الاصطناعي حكمًا أخلاقيًا، ويحدد ما هو "جيد" (أو مرغوب فيه) و"سيئ" (غير مرغوب فيه)؟ وخير مثال على ذلك خوارزمية كومباس COMPAS التي أنشأتها شركة "نورث بوينت" للتنبؤ بعودة المجرم إلى الإجرام، حيث جذبت هذه الخوارزمية انتباه الجمهور لمسألة التحيز ضد الأقليات. كما أن هناك بعض المخاوف والتحديات بشأن إحلال كبير للذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة المرتبطة به والمعزِّزة له محل البشر. وفي النهاية تتطور التقنيات الرائدة بشكل متسارع حتى تتقدم على التقنيات التقليدية؛ مما يجعل التحول الاجتماعي التالي أمرًا لا مفر منه ولا رجعة فيه.
4 تصورات
يعتمد الإطار النظري للدراسة على نموذجي: انتشار الابتكار، وقبول التقنية، لذلك واستنادًا عليهما يفترض الباحثان أن الرغبة في تبني واستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في الأعمال الحكومية ستعتمد على تصور الموظف الحكومي الفرد للفوائد والمخاوف بشأن تقنيات الذكاء الاصطناعي، وتصوره للدور المستقبلي له في المجتمع، وخبراته في هذا المجال (الخبرة السابقة، ومعرفة المفاهيم المتعلقة به، وتصور سهولة استخدامه، والحصول على تدريب فيه). وتطرح الدراسة 4 تصورات تمت في ضوئها صياغة فرضياتها، فيتوقع أولها أن يؤدي التصور الإيجابي لتقنيات الذكاء الاصطناعي لدى الموظفين الحكوميين إلى زيادة رغبتهم في دعم تنفيذ هذه التقنيات في الأعمال الحكومية، بينما ستؤدي زيادة المخاوف لديهم بشأن تلك التقنيات إلى تقليل احتمالية تطبيقه في هذه الأعمال. ويستشرف التصور الثاني تأثير تصورهم المستقبلي لدور الذكاء الاصطناعي في المجتمع ومدى أثره في الرغبة في تبني التقنية الجديدة. وهو ما يرتبط به التصور الثالث الخاص بأنه من المتوقع أن يؤثر فهم الموظف وإلمامه بالذكاء الاصطناعي على عملية التبني. ويبرز التصور الرابع توقع أن يكون لخصائص العمل الحكومي والخصائص الديموغرافية للموظف بعض التأثير على الرغبة في دعم استخدام الذكاء الاصطناعي في الأعمال الحكومية.
نتائج مهمة
وقد خلصت الدراسة إلى عدد من النتائج المهمة، والتي منها أن نسبة كبيرة من الموظفين الحكوميين لديهم نظرة إيجابية للغاية وتوقع إيجابي قوي أن الذكاء الاصطناعي سيحسِّن من كفاءة العمل الحكومي وأدائهم، فمثلًا بلغت نسبة من يرون أنه سيزيد من كفاءة عملهم 55%، مقابل 21% منهم يؤكدون أنه سيحسِّن جودة وفاعلية الخدمة، بينما 19% منهم ينظرون إليه أنه سيريحهم من المهام المملة المتكررة، وحددوا 3 مجالات مؤثرة لاستخدام الذكاء الاصطناعي وهي: اتخاذ القرارات/حل المشكلات بنسبة 30%، والأتمتة بنسبة 27%، والإدراك-مطابقة الأنماط بنسبة 25%. وأثبتت النتيجة الثانية أن هذا التصور الإيجابي كان له تأثير إيجابي على الرغبة في دعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الأعمال الحكومية وتبنيها. وتشير النتيجة الثالثة إلى أن هؤلاء الموظفين الحكوميين أفادت نسبة كبيرة منهم بأن لديهم خبرة في استخدام شكل من شكال الذكاء الاصطناعي في أداء أعمالهم الحكومية الحالية، وأن خبراتهم هذه أثرت بشكل إيجابي وقوي على رغباتهم في دعمهم الذكاء الاصطناعي. كما أوضحت النتائج أهمية تدريبهم على تقنياته لتحسين فهمهم وتصورهم للتقنيات الجديدة ولإمكاناتها في العمل الحكومي، والذي سينتج عنه تعزيز ثقافة الابتكار نحو تحول رقمي مستدام ومؤثر.