الإقالة الهادئة.. التلاعب النفسي بالعقول

​​​​​

 

 

 

تميل أغلب المنظمات إلى الاعتماد على معيار الأقدمية كمعيار أساسي للترقية، فالموظف الأقدم من وجهة نظرها يكون أكثر خبرة، بينما يتجه البعض الآخر من تلك المنظمات إلى تطبيق معيار الكفاءة، والذي قد يشوبه التحيز الشخصي، الأمر الذي قد يؤدي في كلا الحالتين إلى ارتقاء من هم أقل كفاءة للمناصب الإدارية.

الأقل كفاءة

وهو ما يدفعنا إلى التساؤل عن ماذا سيحدث لو تقلد المنصب الإداري من هم أقل كفاءة من مرؤوسيهم؟ سؤال طرحته إحدى المؤسسات التدريبية على منصة X، فسلطت جميع الإجابات التي تلقتها الضوء على مشاعر المرؤوسين وحالتهم النفسية و"ردات" أفعالهم، إلا أن أغلبها لم يتطرق إلى الطرف الآخر الأهم في تلك العلاقة، والذي يملك السلطة، الا وهو رئيس العمل. لذا، فإننا سنقتصر على موقف الرئيس الأقل كفاءة من مرؤوسه، هل سيتقبل الأمر، ويعتبر نفسه نال ما يستحقه، أم يخشى على منصبه من ذلك المرؤوس الأكثر كفاءة أن يزيحه يوما، فيبدأ في التفكير بالتخلص منه، حينها يجد نفسه أمام بديلين؛ أولهما أن يصدر قراراً صريحاً بإقالته من العمل، وحينها يتعرض للقيل والقال، وتلاحقه الاتهامات بأنه أقدم على ذلك غيرة من كفاءته وحفاظا على منصبه، ناهيك عن الدعاوى القانونية ودفع التعويضات لذلك المرؤوس جراء فصله تعسفيا، وهو ما يضر في النهاية بسمعة المؤسسة. وثانيهما، أن يلجأ إلى أسلوب الإضاءة الغازية أو التلاعب النفسي بالعقول gas lighting فيتلاعب نفسياً بذلك المرؤوس ويشككه في مستوى قدراته وأداءه، ويسلبه كافة حقوقه، ويحرمه من جميع فرص التدريب والتطوير والامتيازات المادية ويسمم بيئة العمل حوله، ويجعلها بائسة، ليضغط عليه نفسيا ويدفعه نحو الاستقالة دفعاً.

التلاعب النفسي

وتمثل الاقالة الهادئة quite firing أحد أساليب التلاعب النفسي بالعقول gas lighting، بغرض تجاهل ضحيتها والتلاعب به نفسيا وتسميم بيئة العمل حوله، واضطهاده وإشعاره بالمعاناة، كي لا يجد سبيلا أمامه ولا بدا، إلا بتقديم استقالته والبحث عن فرصة عمل أخرى بمكان آخر.

الثقة والتعاسة

ووفقا لمؤسسة "جالوب" فان هذا الأسلوب السيء للإدارة يعد شائعاً في العديد من مؤسسات العمل المعاصرة للأسف، يشوه سمعتها، ويقضي على الثقة ما بين أفرادها، وينشر التعاسة بينهم، كما أنه يعد سببا رئيسيا لهجرة الكفاءات منها، وتفشي ظاهرة غياب الطيبين والأشخاص الجيدين عن المناصب الإدارية، فلربما أرقهم هذا الأسلوب السيء، فأقصاهم ليس عن المناصب القيادية فحسب، بل عن مؤسسات الأعمال بأكملها. ولكن ماذا عن مظاهره أو أعراضه؛ وبمعنى آخر، كيف يعرف الفرد أنه يتعرض للإقالة الهادئة؟

مظاهر

توجد العديد من المظاهر التي تدلل على تعرض الفرد لممارسات الإقالة الهادئة، ومنها على سبيل المثال: إلغاء الاجتماعات التي سيحضرها الفرد (الضحية)؛ وعدم دعوته لحضور الاجتماعات المهمة، واذا ما تم دعوته فرضا، لا يتم سؤاله عن رأيه، واذا ما تم سؤاله يتم الاستخفاف والسخرية مما يدلي به من آراء؛ و حرص رئيسه على تجنب لقاءه، واذا ما جمعهما لقاء ودار بينهما حوار لمناقشة أحد موضوعات العمل، فان رئيسه يتحين الفرصة لتغيير دفة الحوار إلى أحد الموضوعات الحساسة بالنسبة للضحية، كي يضايقه ويزعجه فيكف عن الحوار ويصمت، واذا ما أرسل الضحية رسالة إلى رئيسه فانه يتعمد التأخير وعدم الرد عليها في الوقت المناسب؛ وبالإضافة الى ما سبق، فإن من أهم مظاهر الإقالة الهادئة هو تعمد تأخير ترقية الضحية وتعثر تقدمه الوظيفي، حتى أنه ليجد نفسه هو الوحيد الذي لم يتقدم وظيفياً، في حين أن جميع من حوله قد تقدموا وارتقوا في وظائفهم، وإذا ما ذهب إلى رئيسه شاكيا، فيجيبه بأنه للأسف لم يكن الشخص المناسب لشغل هذا المنصب، وحظا أوفر له في المرات القادمة؛ وكذلك الحال أيضا بالنسبة لما يحصل عليه من أجور، فاذا ما تقدم بطلب لزيادة أجره أو الحصول على علاوة أو امتياز مادي، فإنه يرفضه أو يعده بوعود واهية لن تتحقق؛ لا يدعمه أبدا لا مادياً و لا معنوياً؛ أو لربما يكلفه بأعمال مرهقة أو تافهة لا تتناسب مع مستوى قدراته أو مهاراته.

كفاءة واخلاص

وفي ضوء ما قرأت فلربما تكون قد تعاطفت مع ضحية الإقالة الهادئة، واعتبرت رئيس العمل قائداً ضعيفاً وساماً، آثم ومذنب تجاه ضحيته، يمكر به ويتلاعب به نفسياً ويسمم بيئة العمل حوله، ليضغط عليه، ويدفعه نحو الاستقالة دفعاً، كي يتبرأ من وزر وتبعات إقالته، لا ذنب لضحيته في هذا الأمر، إلا أنه كان كفاءة وأدى عمله بمنتهى الإخلاص، لذا كان من الضروري أن نعرف أن هذه ليست الحالة الوحيدة التي تطبق فيها الإقالة الهادئة، فهناك حالات أخرى تطبق فيها، منها على سبيل المثال: المستقيل الهادئ ( الذي يؤدي الحد الأدنى من مهامه الوظيفية ومنفصل نفسياً عن وظيفته)؛ ومحدود القدرات والإمكانيات الذي يشغل وظيفة أعلى من مستوى مهاراته ومهاراته؛ المنحرف في بيئة العمل؛ المتنمر والمضايق لزملائه والذي يتسبب في إحداث الصراعات والانقسامات في بيئة العمل.

التكاليف والتعويضات

ولربما كان دافع المديرين إلى إتباع أسلوب الإقالة الهادئة في تلك الحالات، هو: توفير التكاليف والتعويضات التي ستدفع لهم حال تم اقالتهم، وكذا تجنب الدعاوى القانونية المحتملة في حال تم إقالتهم بشكل صريح، ومن ثم الحفاظ على سمعة المؤسسة.

الإدارة الضعيفة

وفي ضوء ما سبق، يمكن القول، أنه إذا ما تم ممارسة هذا الأسلوب بهدف التخلص من الكفاءات، فإن هذا الأسلوب يعتبر مظهرا للإدارة الضعيفة، وستكون له نتائج سيئة، أما اذا ما تم توجيهه نحو التخلص من محدودي القدرات والامكانيات ومثيري المشكلات، فإنه قد يحقق نتائج طيبة. وإذا ما وقعت ضحية لهذا الأسلوب فيفضل أن تسعى للبحث عن عمل آخر، بدلا من المكوث مظلوماً، مهضوم حقك، منبوذ من رئيسك، والذي لربما كنت أنت الوحيد الذي تشكو معاملته في حين أنه من وجهة نظر الاخرين قائداً داعماً وبارعاً.


د/ مرفت السعيد

أستاذ ادارة الأعمال

جامعة الأزهر- مصر


 
 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة