إدارة الشركات بمغالطة «التكلفة الغارقة»

​​إعداد/ د.أحمد زكريا أحمد

يركز الاقتصاديون والخبراء على أن إدارة الشركات وغيرها من المنظمات والجهات، إضافة إلى المشروعات المختلفة يمكن دراسة جدواها من خلال المقارنة بين مكاسبها وخسائرها، وهو التفكير والتخطيط العقلاني والمنطقي الذي يمكن في ضوئه اتخاذ القرارات المتعلقة بمدى استمراريتها في حالات تحقيق خسائر معينة؛ لكن هناك مفارقة غريبة تحدث، تتمثل في أن أغلب هذه القرارات ربما ستتخذ لصالح الاستمرارية تجنبًا للخسائر والإحساس بالضيق؛ وبالتالي الوقوع في مغالطة أو مغالطات «التكلفة الغارقة» والتي يلخصها البعض أنها ببساطة تعني أي شيء يتم استثماره دون استرداده، وهي موضوع هذا التقرير الذي ربما يساعد القادة الإداريين، ومسئولي التخطيط الاستراتيجي، ورواد الأعمال، وغيرهم، وهو ما نتناول تفاصيله في السطور التالية.
استثمار فاشل
نستهل هذا التقرير بما تورده موسوعة «ويكيبديا» إلى أنه في الاقتصاد والأعمال، تُطلق التكلفة الغارقة Sunk Cost على التكاليف التي تم صرفها في مشروع أو قرار معين ولا يمكن استعادتها. وعدم وجودها يعتبر من مميزات السوق المحتملة للتنافس. ويُطلق على حالة ما مغالطة التكلفة الغارقة حينما يكتشف الفرد بأن الاستثمار فاشل، ولكن يستمر فيه لعدم خسارة التكاليف التي دُفعت بالفعل ولا يمكن استعادتها على الرغم من أنه لا علاقة بين التكاليف وبين نجاح الاستثمار مستقبلاً. فعلى سبيل المثال، قد تشتري تذكرة أحد الأفلام ثم بعد شراء التذكرة تكتشف أن الفيلم لا يستحق أن تحضره ولكنك تصر على حضوره؛ لا لشيء إلا لأنك قد دفعت أو تكلفت قيمة تذكرته. ويلفت موقع «أرقام» إلى أن التكلفة الغارقة هي التكلفة التي تم إنفاقها ولا يمكن استردادها، ويمكن أن تكون أموالاً أو جهدًا أو وقتًا، ولا يمكن استعادة هذه التكلفة بأي حال من الأحوال. ومن أمثلة التكلفة الغارقة أن يقوم شخص ما بالاستمرار في قراءة كتاب لا يعجبه لأنه قرأ منه 100 صفحة، أو أن يقوم شخص بإكمال وجبة رغم أنه أحس بالشبع لأنه لا يريد إهدار ثمنها.
 ويرجع هذا التفكير الخاطئ-بحسب أرقام-إلى أن العقل البشري يفكر في الخسائر أكثر مما يفكر في المكاسب، فقد أظهرت الدراسات أن خسارة مبلغ مالي معين تثير إحساسا بالضيق أكبر بكثير من الشعور بالسعادة إذا ما تم ربح نفس المبلغ. لذلك فإن التفكير بعقلية (الخوف من الخسائر المحتملة ومحاولة تجنبها) يجعل بعض الأشخاص يفضلون الذهاب إلى حفلة لأنهم دفعوا ثمن تذاكرها مسبقًا، حتى ولو أصيبوا بوعكة صحية يوم الحفلة. فالعقل البشري يفعل ما في وسعه من أجل تجنب الشعور بخسارة ثمن أموال تذكرة الحفل أو خسارة أي شيء بشكل عام، وهذا ما يؤدي في النهاية إلى التصور الخاطئ حول التكلفة الغارقة.
استثمار بلا استرداد
ويمكن القول إن التكلفة الغارقة بكل بساطة-طبقًا لما يذكره موقع asana-هي أي شيء استثمرته ولا يمكن استرداده. وفيما يلي بعض الأمثلة على التكلفة الغارقة لمساعدتك في تحديد المواقف التي قد تتأثر فيها بمغالطة التكلفة الغارقة التي يمكن أن تشمل كلًا من: تكاليف الفرصة البديلة مثل الوقت الذي استثمرته والذي كان من الممكن أن تقضيه على شيء أكثر إنتاجية، والجهد كالمهام التي تمثل تحديًا خاصًا، والإجهاد العقلي مثل القلق الذي مررت به، والمرافق والنفقات العامة، والمواد الخام والمعدات، والاستثمارات كما في شراء الأعمال التجارية، والاشتراكات السنوية، وتكاليف الأعمال غير القابلة للاسترداد مثل الرسوم القانونية أو تكاليف الإعلان.
صنع واتخاذ القرارات
وبحسب موقع Productplan فإن التكلفة الغارقة، والتي تسمى أحيانًا التكلفة بأثر رجعي، والتي من أمثلتها في الأعمال التجارية التسويق أو البحث أو تثبيت برامج أو معدات جديدة أو الرواتب والمزايا أو نفقات المرافق. ويرى الاقتصاديون أن التكاليف الغارقة-من الناحية النظرية-ليست ذات صلة بعملية صنع القرار في المستقبل. بينما من الناحية العملية، يمكن للتكاليف الغارقة أن تؤثر بشكل كبير على القرارات المتعلقة بالمستقبل؛ ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه من الصعب نفسيًا التخلي عن الوقت أو الجهد أو الموارد المالية التي تم استثمارها مسبقًا حتى لو فشلت نتائج تلك الاستثمارات في تلبية التوقعات.
كما يشير موقع Investopedia إلى أن مغالطة التكلفة الغارقة هي العقلية غير السليمة التي قد تكون لدى الشركة أو الفرد عند اتخاذ القرار. وتستند هذه المغالطة إلى فرضية مفادها أن الالتزام بالخطة الحالية له ما يبرره لأن الموارد قد تم الالتزام بها بالفعل؛ وهو الخطأ الذي قد يؤدي إلى اتخاذ قرارات تخطيط استراتيجي غير مناسبة على المدى الطويل بناءً على التكاليف الملتزم بها على المدى القصير.
فغالبًا ما يتم تبسيط مغالطة التكلفة الغارقة إلى فكرة رمي الأموال الجيدة بعد الأموال السيئة مع رفض تقليل الخسائر. وهو ما يوضحه «جيم سيميك»-المؤسس المشارك لـ ProductPlan-بأنه في نظرية التكلفة الغارقة، غالبًا ما نقرر الاستمرار في شيء ما لأننا خصصنا الوقت أو الموارد له. ونحن نعتقد أنه نظرًا لأننا «أغرقنا» هذه التكلفة؛ فإننا بحاجة-بطريقة أو بأخرى-إلى استردادها، وهو ما يمثل مغالطة.
الثابتة والغارقة
وعلى جانب آخر، يقارن موقع Investopedia بين نوعي التكاليف الثابتة والغارقة بالنسبة لكل من الشركات والأفراد، موضحًا أن جميع التكاليف الغارقة هي تكاليف ثابتة ولكن ليست كل التكاليف الثابتة هي تكاليف غارقة. والفرق هو أن التكاليف الغارقة لا يمكن استردادها. فإذا كان من الممكن إعادة بيع المعدات أو إرجاعها بسعر الشراء-على سبيل المثال-فهي ليست تكلفة غارقة.
ويرى الموقع أن التكاليف الغارقة لا تنطبق على الشركات فقط، حيث يمكن للمستهلكين الأفراد أن يتحملوا تكاليف غارقة أيضًا. لنفترض أنك اشتريت تذكرة مسرح بمبلغ 50 دولارًا ولكنك لم تتمكن من الحضور في اللحظة الأخيرة. سيكون مبلغ الـ 50 دولارًا الذي أنفقته بمثابة تكلفة باهظة، لكنه لن يؤثر فيما إذا كنت ستشتري تذاكر المسرح في المستقبل أم لا. بشكل عام، تولي الشركات اهتمامًا أكبر للتكاليف الثابتة والتكاليف الغارقة أكثر من الأشخاص.
كما تغطي التكاليف الغارقة-أيضًا-بعض النفقات التي تم الالتزام بها ولكن لم يتم دفعها بعد. تخيل أن شركة أبرمت عقدًا لشراء ما قيمته 1000 دولار من المواد الخام للأشهر الستة القادمة. فإذا كانت الشركة ملزمة تعاقديا بالحفاظ على نهاية الصفقة، فإن المواد الخام هي تكلفة غارقة سواء دفعت الشركة ثمنها أم لا؛ لأن الشركة ستتحمل التكاليف بغض النظر عما تقرر الشركة القيام به مع المواد.
الـ«كونكورد» والمسار الوظيفي
وحتى تتضح فكرة «التكلفة الغارقة» بشكل كبير، ينوه موقع «أرقام» إلى أن أبرز سلبيات التفكير الخاطئ بشأن هذه التكلفة أنها تحاول إقناع العقل البشري بإكمال مسار مشروع فاشل؛ خوفًا من خسارة الوقت أو الجهد أو الأموال التي تم إنفاقها في الماضي. ولعل من أشهر الأمثلة على ذلك طائرة «كونكورد» التي أنتجتها الحكومتان الفرنسية والبريطانية. فقد كانت «كونكورد» أول طائرة تجارية أسرع من الصوت، وتم تصميمها للقيام برحلات بسرعة كبيرة، ولتمكين الركاب من عبور الأطلسي في 3 ساعات ونصف. وقد كان من المتوقع أن تفشل هذه الطائرة، وكانت الحكومتان الفرنسية والبريطانية تعرفان ذلك. لكن التفكير الخاطئ عن التكلفة الغارقة جعل الحكومتين تواصلان تمويل المشروع بسبب ما تم إنفاقه مسبقًا. وفي النهاية فشل المشروع وخسرت الحكومتان تكاليف إضافية على التكاليف الغارقة.
ويبرز موقع Investopedia مثالاً غير مالي لطالب جامعي يحاول تحديد تخصصه. إذ يختار هذا الطالب أن يتخصص في المحاسبة، ليدرك بعد فصلين دراسيين أن هذا ليس المسار الدراسي والوظيفي المناسب له. لذلك فإن مغالطة التكلفة الغارقة ستجعل الطالب يعتقد أن الالتزام بتخصصه في المحاسبة يستحق العناء؛ لأنه أنفق مالًا وبذل جهودًا مضنية في الدراسة والتدريب. إلا إنه في الواقع، يجب على الطالب فقط تقييم موقفه من المقررات المتبقية والمقررات المطلوبة لتخصص مختلف.
الناحيتان المالية والنفسية
كما يبين موقع SlideModel أن كلًا من «كانيمان» و»تفيرسكي»-من خبراء الاقتصاد السلوكي- قاما بإجراء تجربة اجتماعية سريعة في أواخر الثمانينيات. فقد سألوا مجموعتين من الأشخاص عما سيفعلونه إذا:
- أتيت إلى إحدى دور السينما، وفتحت محفظتك لشراء تذكرة بقيمة 10 دولارات، لكنك أدركت أنك فقدت للتو فاتورة بقيمة 10 دولارات في مكان ما. وفي هذه الحالة ذكر 12% فقط من المشاركين أنهم لن يشتروا تذكرة، وبالمقابل فإن الأغلبية لن تهتم كثيرًا.
- أو أنك اشتريت بالفعل تذكرة بقيمة 10 دولارات، ولكن عندما تتجه لدخول المسرح، تدرك أنك فقدتها للتو في مكان ما. هل ستستمر وتشتري واحدة جديدة؟ وهنا أكد 54% من المشاركين أنهم لن يفعلوا ذلك.
ويفسر الباحثان ذلك بقولهما إنه من الناحية المالية، الحالتان متماثلتان. لقد خسرت للتو 10 دولارات إما كفاتورة أو تذكرة. لكن من الناحية النفسية، نشعر بالحزن عندما نفقد شيئًا دفعنا ثمنه. وهذا ما يسمى النفور من الخسارة - فنحن نفضل عدم خسارة 10 دولارات بدلاً من العثور على 10 دولارات إضافية. لذلك يعد النفور من الخسارة أحد المكونات الأساسية لتحيز التكلفة الغارقة.
غير منطقية ومشاعر سلبية
ويشير الموقع إلى أن كلًا من «هال آركس» و»كاترين بلومر»-باحثان في الاقتصاد السلوكي-قد أجريا دراسة في عام 1985م، خلصت إلى أن عملية صنع القرار لدى الناس تختلف اعتمادًا على مقدار الوقت والموارد التي استثمروها بالفعل في هذه المسألة». وقد لخص «بلومر» و»أركس» عقلية التكلفة الغارقة باعتبارها ميلًا أكبر لمواصلة المسعى بمجرد الاستثمار في المال أو الجهد أو الوقت، على الرغم من عدم عقلانيتها أو منطقيتها.
ووفقا لشركة Decision Lab المتخصصة في مجال الأبحاث المعنية بالعلوم السلوكية وعملية صنع القرار، فإن مغالطة التكلفة الغارقة تحدث لأن عواطفنا غالبًا ما تجعلنا ننحرف عن القرارات العقلانية. فعلى سبيل المثال، من المرجح أن يؤدي التخلي عن مسعى ما بعد الالتزام به واستثمار الموارد فيه إلى مشاعر سلبية بالذنب والإسراف. وبما أننا نريد تجنب مشاعر الخسارة السلبية، فمن المرجح أن نتابع القرار الذي استثمرنا فيه حتى لو لم يكن في مصلحتنا.
5 عوامل رئيسية
ويحدد موقع Productplan 5 عوامل يمكن أن تؤدي إلى مغالطة التكلفة الغارقة في عملية صنع القرار، وهي كالتالي:
1- النفور من الخسارة: التفضيل والميل إلى تجنب الخسارة على الربح المعادل.
2- التأطير: التحيز المعرفي لتجنب المخاطر بإطار إيجابي وقبول المخاطر بإطار سلبي.
3- الانحياز الاحتمالي المفرط: التصور بأن التكلفة تزيد من العائد المستقبلي على الاستثمار.
4- المسؤولية الشخصية: ربط الاستثمار والجهد بفرد أو مجموعة معنية بشكل مباشر.
5- الإسراف: الرغبة في تجنب الحكم عليك على أنك أهدرت الوقت أو الموارد أو استثمار التكلفة في جهد ما غير مجدٍ.
5 استراتيجيات
وفي المقابل، يبرز الموقع نفسه 5 استراتيجيات لإدارة حالة عدم اليقين بشأن ما إذا كان يجب الاستمرار في تطوير ميزة أو منتج جديد أو إيقافه لاستثمار الموارد والوقت في مشروع قد يؤدي إلى نتائج أفضل:
1- فهم النتيجة المرجوة (ما هو الهدف الذي تريد أن يحققه العملاء؟ هل هناك بدائل؟).
2- إعادة النظر في تحديد الأولويات (هل تعمل على الأشياء الصحيحة؟).
3- التركيز على السباقات القليلة القادمة (انظر إلى الصورة الكبيرة بعبارات عامة، لكن احتفظ بالتخطيط التفصيلي للمستقبل القريب).
4- احتضن عدم اليقين (من المرجح أن يتبعك النجاح عندما تكون منفتحًا على التغيير والفرص).
5- لا تأخذ الأمر على محمل شخصي (اتخاذ القرار الذكي يركز على رؤية المنتج واستراتيجيته، وليس على صانع القرار).
ولاء العملاء
لكن هناك فرضية مهمة تطرح نفسها حول كيفية الاستفادة من التكلفة الغارقة بشكل إيجابي، يؤكد موقع «أرقام» أنه يمكن تحقيق ذلك في مجال تحفيز العملاء على الشراء، مثل إنشاء برنامج عضوية يمنح الأعضاء بعض التخفيضات والعروض الخاصة. رغم أن ذلك قد يشجع كثيرًا من العملاء على الشراء؛ لأنهم لن يرغبوا في خسارة رسوم الاشتراك إذا ما فكروا بمنطق التكلفة الغارقة. رغم أن بعض العملاء لن يتحمسوا للاشتراك في العضوية؛ بسبب رسوم الاشتراك، وبالتالي لن يكون هناك مجال لتحفيزهم على الشراء من خلال التفكير بمنطق التكلفة الغارقة.
كما يحدث ذلك-أيضًا-عندما يكون المنتج أو الخدمة التي تقدمها العلامة التجارية تتطلب جهدًا ووقتًا لتعلم كيفية استخدامها. وفي هذه الحالة، فإن العملاء الذين استثمروا وقتًا وطاقة لاكتشاف كيفية الاستخدام لن يتراجعوا عن شرائها. على الجانب الآخر يمكن أن يمثل ذلك صعوبة أمام مستخدمين آخرين؛ مما يقلل شراء المنتج أو الخدمة. كذلك يمكن تحقيق الاستفادة من التكلفة الغارقة من خلال برنامج قائم على النقاط، يمنح العملاء مكافآت مالية عند الشراء؛ لتحفيزهم بدلاً من تحميلهم أعباء مالية.
خلاصة ونصيحة مهمة
ويخلص موقع SlideModel إلى أن التكاليف الغارقة أمر لا مفر منه في أي عمل تجاري. ذلك أن كونك صانع قرار جيد لا يعني أنه يمكنك تجنبها تمامًا، بل يعني فهم سبب حدوثها وما هي أفضل طريقة للمضي قدمًا. عندما لا يكون من الواضح ما إذا كان يجب عليك التخلص من الخسائر أو الاستمرار في المضي قدمًا لإنقاذ الخسارة، فلا تعتمد على أحكامك الشخصية وحدها. قم بإجراء تحليل مالي أو مراجعة لاحقة لتفهم بوضوح موقعك الحالي وما الذي يمكنك فعله لتعويض تلك الخسارة في المستقبل القريب.



​​

 
 
انفوجرافيك
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة