الذكاء القانوني الاصطناعي


في أواخر شهر مايو الماضي، تداولت الصحف الأمريكية خبراً عن إحالة أحد المحامين في ولاية نيويورك للتحقيق. وتذكر المصادر أنه يواجه عقوبات محتملة؛ وذلك بسبب تقديمه للمحكمة مذكرة دفاع تستند على سوابق قضائية ابتكرها ChatGPT. بدأت هذه القصة حينما لجأ أحد المسافرين-في رحلة من رحلات طيران Avianca-لهذا المحامي وذلك لرفع دعوى تعويض عن ضرر أصابه جراء اصطدام عربة نقل الطعام داخل الطائرة بإحدى ركبتي هذا المسافر. وقام المحامي برفع الدعوى أمام المحكمة، ولكن محامي شركة الطيران دفع بسقوط الدعوى بسبب تقادم المدة. ولكن محامي المسافر لم يستسلم وأرفق مذكرة دفاع مكونة من 10 صفحات تحتوي على أحكام قضائية سابقة صدرت في نفس الموضوع؛ وذلك لإقناع المحكمة بالنظر في الدعوى والحكم بالتعويض.
هذه السوابق كانت أحكاماً قضائية ضد شركات طيران أمريكية ودولية، ولكن عند البحث عن هذه الأحكام من قبل محاميي شركة الطيران-المتخصصين بالطبع في قانون الطيران-لم يجدوا لها أثراً في قواعد البيانات الخاصة بالأحكام القضائية، وكان لديهم توقع كبير أنها قضايا غير موجودة من الأساس وأن إحدى الروبوتات قد اخترعتها. كذلك وجد القاضي-ناظر-الدعوى أن هذه الأحكام من نسج الخيال وليس لها وجود على أرض الواقع؛ ونتيجة لذلك، حدد القاضي جلسة للنظر في مدى تطبيق بعض العقوبات على المحامي الذي قدم أدلة غير صحيحة للمحكمة.
إن هذه القضية تعرض لنا جزءًا بسيطاً من التحديات التي قد تواجه استخدام الذكاء الاصطناعي في المحاماة والاستشارات القانونية. ومما لا يدع مجالاً للشك أن ثورة الذكاء الاصطناعي ستحسن وتسرع من أعمال المحاماة والاستشارات القانونية؛ ولكن يجب التنبه وأخذ الاحتياطات اللازمة عند استخدامها في الأعمال القانونية خاصةً، وأن العمل القانوني عملاً إنسانياً يعتمد على الذكاء البشري بالدرجة الأولى.
ففي قضية المحامي مع شركة الطيران كان بإمكانه التأكد من وجود هذه الأحكام في قواعد البيانات المعتمدة، إلا أنه تأكد فقط من الروبوت، والذي لا يعد قاعدة بيانات معتمدة للأحكام القضائية. وهذا يعد إخلالاً من المحامي بواجباته المنصوص عليها في قواعد وأخلاقيات مهنة المحاماة، حيث إنه بهذا السلوك قد أخل بمبدأ الرقابة والإشراف على صحة ودقة أعمال المحامين والمساعدين القانونيين التابعين له، بما فيهم الروبوتات التي تقدم المساعدة القانونية. كذلك فإن ذلك يعد انتهاكاً لمبدأ المحافظة على سرية معلومات وبيانات العميل، حيث إن المحامي حينما يستعين بالروبوت يدلي بوقائع قضية موكله على الغير، فإن هذه الروبوتات قد تحتفظ بهذه البيانات والمعلومات السرية؛ مما يعد انتهاكاً صريحاً لمبدأ لطالما تبنته دول العالم في قواعد المسؤولية المهنية للمحامين. والأهم من ذلك، هو أن المحامي لم يمثل موكله خير تمثيل في هذه القضية، حيث إن القوانين تلزم المحامين ببذل العناية اللازمة للدفاع عن عملاءهم والمحافظة على مصالحهم ويتحمل المحامي المسؤولية المدنية والجزائية عند مخالفته هذه المبادئ.
ونخلص إلى أن ثورة الذكاء الاصطناعي كغيرها لها محاسنها ومساوئها؛ لذلك يجب الاستثمار في المحاسن والحد من المساوئ خاصة عند استخدام هذه التقنيات في الأعمال القانونية. وتأكيداً لهذا التوجه؛ وافق مجلس الوزراء على إنشاء المركز الدولي لأبحاث وأخلاقيات الذكاء الاصطناعي. ومما لا شك فيه أن هذه التقنيات المتقدمة ستساعد في تحسين جودة العمل القانوني وضمان وصول الخدمات القانونية لكافة فئات المجتمع؛ متى ما استخدم الذكاء القانوني الاصطناعي بطرق واعية وذكية. ومن هذا المنطلق، ينبغي لمؤسسات تعليم القانون أن تبدأ بالتعاون مع معاهد ومراكز الذكاء الاصطناعي للشراكة في استثمار هذه التقنيات، وتعليم الطلاب كيفية تسخيرها وتطويرها؛ بحيث يتم تقديم الخدمات القانونية بكفاءة عالية وأساليب مبتكرة.


 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة