البيروقراطية الرقمية


عندما شَرَعَ المسؤولون ومتخذو القرارات في المنظمات في توظيف التقنية الحديثة في تيسير الأعمال وتنفيذ الخدمات في منظماتهم، كان ذلك توجُّهًا رائعًا ومميزًا؛ نظرًا للمزايا غير المحدودة التي توفرها التقنية الحديثة للمستفيدين، والتأثير الإيجابي الكبير على تجربة العميل. ولقد رأى الكثير من المختصين في الإدارة أن في ذلك تَخَلُّصًا من النماذج البيروقراطية التقليدية التي كانت تعتمد على الضبط والنظام والمركزية والعمل الورقي.  إلاَّ أنَّه باتَ واضحًا لنا أنَّنا خرجنا من رَحِمِ بيروقراطية Max Weber إلى حُضْنِ كائنٍ جديدٍ؛ ناعمٍ ولطيفٍ. إنَّه وجهٌ آخرٌ للبيروقراطية؛ يُطْلقُ عليه اصطلاحًا «البيروقراطية الرقمية Digital Bureaucracy» التي لا تَقِّل في أثارها وتأثيراتها السلبية عن آثار النموذج القديم للبيروقراطية؛ قياسًا على تطلعات العملاء وتوقعاتهم في القرن الواحد العشرين.
خطوات وإجراءات معقدة
ففي الوقت الذي كان ينتظر فيه المستفيدون من الخدمات في المنظمات أن يتمَخَّضَ عن التطورات التقنية الهائلة في العالم سرعةٌ في الأداء والجودة، وتقليصٌ في عدد الخطوات والعمليات، وتوفير في الجُهْد؛ إلاَّ أنَّه ظهر لنا أن كثيرًا من الأنظمة الإلكترونية المُصَمَّمَة لتقديم وتنفيذ الخدمات، تتطلب جهدًا أكبر، وعددًا أكثر من الخطوات التي يتم تنفيذها بشكل روتيني مُمِلٌّ ومُعَطِّلٌ؛ والنماذج المتعددة التي يتطلب من العميل تعبئتها واحدًا تلو الآخر؛ فحين يدخل العميل على منصةٍ إلكترونيةٍ أو نظامٍ الكترونيٍّ أو تطبيقٍ على أجهزة الهواتف الذكية أو الأجهزة اللوحية؛ يكتشف أنه عند الدخول على النظام بحاجة إلى سلسلة من الخطوات الروتينية الطويلة والمُتَكَرِّرَة، مثل كتابة اسم المستخدم، والبريد الإلكتروني، وأحيانًا الهويةّ الوطنية، وربما أُشْكِلَ على المستفيد فيما إذا كان من الضروري أن يكتب باللغة العربية أو باللغة الإنجليزية، وأيضًا الكثيرٌ من المراجعات والإعاقات المستمرة، فهذا حرْفٌ صغيرٌ وهذا حرْفٌ كبيرٌ، وهذا رمْزٌ مطْلوبٌ وآخرُ مِثْلُه مرْفوضٌ، ثم ينتقل إلى حروف التَّحَقُّق  CAPTCHA، وما أدراك ما ال CAPTCHA!! التي تشبه-من وجهة نظري-مسابقة حل الألغاز والحروف المتقاطعة التي كنَّا ننتظرها يوميًّا في الصحف والمجلات في سنوات خَلَتْ. وإن تجاوزْتُ ذلك ودَخَلْتُ على المنصة أو النظام أو التطبيق فهنيئًا لك!! ولكن يجب أن تكون مستعدًا للخطوة التالية!! إنَّها عملية تحديث البيانات، فيجب عليك تحديث بياناتك؛ حتى وإن كان آخر تحديث لها هو اليوم الفائت، وربما تعلَّق التحديث بتاريخ ميلادك!! وكأنَّك تُوْلَدُ من جديد في كلِّ يومٍ مرةً أو مرتين!! أو أنك تحصل على شهادة علمية إضافية في ظرف أسبوع!! ولا ننسى أيضًا الحاجة إلى إثبات الموافقات وطلبات التأكيد، مثل هل أنت متأكد؟ هل أنت موافق؟ حيث تجد أمامك في كل منصة أو نظام أو تطبيق إلكتروني الكثير من الحقول والمربعات والدوائر التي لا تلْبَثُ أن تتحول باللون الأحمر عند عدم المطابقة. كما لا يفوتنا هنا من التعريج على موضوع الملفات والوثائق التي سبق أن تم رفْعَها على النظام نفسه أو على قاعدة بيانات أخرى، حيث كان يُفْتَرَضُ الحصول عليها من قواعد معلومات أخرى، وهذا جانب آخر مهم في مشكلة البيروقراطية الرقمية.
المسؤولية
إن المسؤولية في نشوء وانتشار ظاهرة البيروقراطية الرقمية تَقَعُ بالدرجة الأولى على عاتقِ محللي نظم وتصميم المعلومات، والاختصاصيين في البرمجة ومن يقِفُ خلْفَهم من المسؤولين في مدى توفر القدرة على توظيف التقدم الهائل في المجال التقني لتحسين تجربة العملاء. كذلك تَمْتدُّ المسؤولية لتَصِل إلى الإدارة العامة للتميز المؤسسي؛ لدورها المهم والمحوري في تحسين العمليات وتبسيط الإجراءات، وتطوير برامجَ تُحَقِّق رضا العملاء الداخليين والخارجيين.
منظور شامل للعلاج
وكمنظور شامل لمعالجة مشكلات البيروقراطية الرقمية؛ فإنَّه يتوجَّبُ على المنظمات إتِّبَاع الآتي:
أولًا: أن يكون إنشاء المنصَّات، وتصميم الأنظمة الالكترونية، والتطبيقات، من خلال فريقِ عملٍ مشتركٍ، يتكون أعضاؤه من الوحدات الإدارية المَعْنِيَّة بمشروع التطوير، وأعضاءُ آخرون من الإدارة العامة لتقنية المعلومات، مع استطلاعٍ دقيقٍ وصادقٍ لرأي شريحة كافية من المستفيدين الداخليين والخارجيين حسب الحالة.  وفي حالات أخرى يمكن أن يكون فريق العمل يتضمن أعضاء من خارج المنظمة، سواء كانوا أفرادًا أو شركات. إن أهمية تشكيل فرق العمل في المنظمات على النحو المشار إليه أعلاه؛ يكْمُن في أن نجاح مشروع التطوير، من خلال البُعْد التقني؛ يتطلب أن يمتلك فريق العمل المكلف بمشروع التحسين أو التطوير معرفة متخصصة وعميقة في المجال التقني، وفي مجال الخدمة ذاتها، سواء كانت مالية، أو إدارية، أو صحية، أو تعليمية، وغيرها. فمن غير المقبول أن يتولى فريقٌ معينٌ تصميمَ نظامٍ إلكترونيٍ ماليٍ، وهو غير مختص بالإدارة المالية. كذلك الأمر بالنسبة لتصميم نظامٍ صحيٍ في مستشفى، فمن غير المقبول أن تشرع في تصميم نظامٍ صحيٍ إلكترونيٍ، وأنت-كفريق-لا تدرك بشكْلٍ حقيقيٍّ إجراءات إدخال مريض للتنويم الداخلي في المستشفى، أو إجراءات صرف الدواء ومتطلباتها على سبيل المثال. إن الجمع بين فريق من الوحدة الإدارية المختصة بمشروع التطوير والتحسين، وفريقٌ تقنيٌ متخصصٌ؛ من المؤكَّد أنَّه الحلُّ المناسبُ لمواجهة المشكلات المتعلقة بالبيروقراطية الرقمية.
ثانيًا: الحرص التام من قبل متخذي القرارات في المنظمات على أن يكون فريق العمل يمتلك المهارات اللازمة لتحليل وتصميم الأنظمة والبرمجة وتحديد متطلباتها، وإدراك وتطبيق جودة التصميم والتحليل والبرمجة.
ثالثًا: تفعيل أنظمة الجودة وقواعد الحوكمة، ومنها جودة تحليل النظام، وجودة تصميم النظام، وجودة البرمجة، وإتباع المنهجيات الحديثة في التحليل والتصميم والبرمجة مثل منهجية Agile، بالإضافة إلى ضرورة اختبار النظام قبل الانتقال إلى مرحلة التنفيذ والتشغيل.
رابعًا: ربط قواعد البيانات مع بعضها داخل الجهات الحكومية، وفيما بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص حسب الحاجة؛ فإنَّه بلا شك، يظلُّ هو الآخر جزءًا أساسيًّا من أدوات حل مشكلات البيروقراطية الرقمية، بحيث تظهر المعلومات المطلوبة حين طلبها، حتى وإن كانت متوفرة على قاعدة معلومات أخرى؛ فليس من المقبول أن يُدْخِل الطالب في الجامعة بياناته الشخصية على موقع الجامعة الإلكتروني، والبيانات نفسها متوفرة، وموثقة، ودقيقة، وحديثة في موقعٍ إلكترونيِّ آخر لوكالة وزارة الداخلية للأحوال المدنية أو مركز المعلومات الوطني، وليس من المقبول أن يُدْخِل المتقدم لوظيفة-مثلًا-بيانات الشهادة العلمية على موقعٍ إلكترونيٍّ لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، والوزارة مرتبطة بقاعدة معلومات مع الجامعة. ويتم القياس على ذلك في كل المعاملات فيما بين الجهات الحكومية والخاصة. فيمكن من خلال رقم الهوية الوطنية توفير المعلومات المطلوبة عن صاحب الطلب أو الخدمة المطلوبة، من خلال ربط قواعد المعلومات مع بعضها، أو أن تكون هناك قاعدة معلومات وطنية موحَّدَة؛ يستطيع طالب الخدمة استيراد كافة المعلومات التي يحتاجها من خلالها.
خامسًا: من المناسب جدًا التوسع في توظيف الحلول التقنية، مثل الذكاء الصناعي، وإنترنت الأشياء، وسلسلة الكتل؛ لقدرتها على المساهمة في تقديم خدمات مميزة وفعاَّلة، وغير مسبوقة. 
ورغم هذا كُلِّه، إلاَّ أن هناك بُعْدًا سلوكيًا بشريًا ظاهرًا في موضوع البيروقراطية الرقمية بجانب البُعْد التقني-لا يمكن تجاهله-يتمثل في احتكار بعض المختصين والتنفيذيين في المنظمات الصلاحيات، وتَطْويعها لخدمة فلسفاتهم الإدارية، ورُبَّما لخدمةِ مصالحهم الخاصة، فَهُمْ وحْدُهُم من يحتفظ بكلمة السر التي يمكن من خلالها التحكم في المنع والحجب، أو المنح والموافقة، سواء كان ذلك كتفويض وتمكين للموظفين من أجل تسريع تقديم الخدمات، أو كان ذلك في مجال إصْدار القرارات، ومنح الموافقات على طلبات المستفيدين من خارج المنظمة؛ مما يكون له الأثر البالغ في تعميق تأثير البيروقراطية الرقمية على تعزيز جودة الأداء، وتيسير تقديم الخدمات، وتحسين تجربة العميل.


 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة