هل «العمل الهجين» يعد المعادلة الناجحة لمستقبل الوظائف حول العالم؟

​​​بعد مرور أكثر من 3 أعوام على بداية انتشار مفهوم العمل من المنزل "عن بعد"، على خلفية تفشي وباء كورونا؛ لا يزال كثير من الموظفين يتمسكون بالمرونة التي تُصاحِب العمل عن بُعد؛ لدرجة أنه في الأشهر الأخيرة عندما حاول أصحاب العمل إعادة الموظفين إلى المكاتب؛ اعترض آلاف منهم؛ مشيرين إلى أن العمل من المنزل يؤدي إلى زيادة الإنتاجية.

وبينما لا تزال الدراسات تحاول البحث في الآثار السلبية والإيجابية لمبدأ العمل من المنزل، وكيفية تطويره في المستقبل؛ خرج مصطلح "العمل الهجين" الذي يعتمد على استراتيجية تجمع بين العمل من المنزل والعمل في المكتب.
غرامة مهنية خفية
فقد توصلت دراسة حديثة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز"، إلى أنه ربما يدفع الموظفون الذين يعملون عن بُعد، غرامةً مهنية خفية مقابل تلك المرونة؛ وفقًا لورقة عمل من الاقتصاديين في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك وجامعة أيوا وهارفارد.
السلبية المهنية 
ويُعد هذا البحث من بين أهم الدراسات الرئيسية التي أثبتت الجانب السلبي المهني للعمل عن بُعد. ووجدت الدراسة أن العمل عن بُعد، فيما يتعلق بقطاع الهندسة والتكنولوجيا على سبيل المثال؛ عزّز إنتاجية كبار المهندسين؛ لكنه أيضًا قلل من كمية التوجيهات والتعليقات الإرشادية التي تلقاها صغار المهندسين، وكان بعض المهندسين المبتدئين أكثر عُرضة لترك شركاتهم، كما تراجعت نسبة تطور المهندسات الإناث بالتحديد.
وقال معدو الدراسة؛ وفقًا لـ"واشنطن بوست": إن النتائج التي توصلوا إليها تشير إلى شيء أوسع، وهو أن المكتب، على الأقل بالنسبة لنوع معين من الموظفين، لعب دورًا مهمًّا في التطوير الوظيفي المبكر.
التوجيه والتدريب
كما أثبت البحث أن التوجيه والتدريب الذي يحصل عليه الموظفون بشكل شخصي ومباشر، من الصعب تنفيذه من خلال تطبيقات المحادثة مثل "زووم وسلاك"، وكذلك فإن الاجتماعات وجهًا لوجه مختلفة تمامًا عن "فيس تايم"؛ مؤكدًا أن من الصعب تكرار فرص التدريب المهني والتعلم التي تأتي من التفاعلات الشخصية؛ بحسب الصحيفة، ولا بد من أن يعمل الموظفون من المكاتب على الأقل ثلاثة أيام في الأسبوع.
العمل الهجين
واستخدمت الدراسة مصطلح "العمل الهجين" للتعبير عن المعادلة الناجحة لمستقبل الوظائف حول العالم؛ مشيرة إلى ضرورة أن يعمل الموظفون من المكاتب على الأقل ثلاثة أيام في الأسبوع. وذكرت الدراسة أن عقوبة العمل عن بُعد قد تكون أكبر بالنسبة للنساء والشباب والأشخاص الملوّنين، الذين غالبًا ما يفتقرون إلى الشبكات المهنية التي يمكن أن يساعد التواجد في المكتب في توفيرها؛ لكن العديد من الدراسات الاستقصائية وجدت أن نفس هذه المجموعات هم أيضًا الذين يفضلون مرونة العمل عن بُعد أكثر من غيرهم، والأقل احتمالًا للعودة إلى المكتب.
التطور الوظيفي
وأكدت الدراسة التأثير السلبي للعمل عن بُعد على التطور الوظيفي، وأوضحت أن ثمن المرونة قد لا يكون واضحًا للعمال أو الشركات إلا بعد مرور سنوات، عندما تظهر التفاوتات في الأجور أو الترقية.
أوفر اقتصاديًّا 
وبالنسبة للجانب الاقتصادي، يعتبر العمل من المنزل من أعلى العوامل التي توفر الإنفاق المؤسسي، وذكرت وكالة "بلومبوغ"، أن عمل موظفي الحكومة الفيدرالية الأمريكية من المنزل بعد كورونا؛ أسهَمَ في خفض الإنفاق الحكومي على تكاليف العقارات المرتفعة وتكاليف الطاقة بعد تقليل أعداد المكاتب الفيدرالية. لكن على الجانب الآخر، ذكرت الوكالة أن العمل من المنزل يعني تنقلًا أقل إلى مناطق المكاتب، مع انخفاض متوازٍ في نِسَب التوظيف في المطاعم وتجار التجزئة ومقدمي الخدمات الآخرين هناك،  وأن العاصمة الأمريكية، واشنطن، تضررت بشكل خاص، مع انخفاض بنسبة 4.6% في التوظيف منذ فبراير 2020م، أي ما يقرب من أربعة أضعاف الانخفاض بنسبة 1.2% في مدينة نيويورك. ولا تتوفر أرقام الوظائف في الوقت المناسب لمعظم المدن الأمريكية الأخرى؛ لكن من بين أكبر 15 منطقة مترو، سجلت منطقة واشنطن ثاني أسوأ أداء وظيفي.
التأثير النفسي 
وفي ما يتعلق بالجانب النفسي، أوضحت "نيويورك تايمز"، أنه رغم أهمية الإنتاجية، تحدثت العديد من الدراسات عن الآثار الصحية السلبية المحتملة للعمل عن بُعد بالنسبة لبعض الأشخاص؛ سواء بالنسبة لصحتهم العقلية أو البدنية. ووجدت مجموعة حديثة من الدراسات التي تبحث في الآثار العقلية والبدنية للعمل عن بُعد، نتائج مختلطة؛ إذ ازدهر أداء بعض العمال، بسبب توفر مزيد من الوقت للسلوكيات الصحية؛ بما في ذلك ممارسة الرياضة والتواصل مع الأسرة، بينما أصبح آخرون أقل نشاطًا واكتسبوا وزنًا وأصيبوا بالعزلة والاكتئاب.
أمراض العمل عن بُعد
وأوضحت الدراسات أن البشر يحتاجون إلى الحركة، ويوجد دليل قوي يربط بين زيادة الحركة وانخفاض خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية؛ مثل ارتفاع ضغط الدم، وارتفاع الكوليسترول، والأمراض المزمنة مثل مرض السكري وأنواع معينة من السرطان، وحالات الصحة العقلية؛ بما في ذلك الاكتئاب والقلق.
وأكدت الدراسات أيضاً أنه كلما تحركنا أكثر، أصبحنا أكثر صحة؛ لأن التحرك كل يوم لا يجعلنا نشعر بالتحسن فقط؛ بل هو من بين أكثر أشكال الطب الوقائي فعالية وبعيدة المدى. علاوة على ذلك، يرتبط الخمول ارتباطًا وثيقًا بالمرض؛ لأنه كلما زاد وقت الجلوس وقلت الحركة طوال اليوم، كان الشخص أكثر عرضة للإصابة بالأمراض.
ويتأثر كل من متوسط العمر المتوقع (مدى الحياة) والملف الصحي (مدى الصحة) سلبًا؛ بسبب الخمول لفترات طويلة. وقد أدت السنوات الثلاث الماضية إلى تسريع هذا الاتجاه بسرعة؛ بحسب "نيويورك تايمز".
الصحة العقلية
وأظهرت البيانات المتعلقة بعدد الخطوات أثناء الجائحة، انخفاضًا في سلوك (التوليد الحراري للنشاط غير التدريبي)، أي الخطوات اليومية الطبيعية وليست خطوات التمرين، مثل خطوات المشي إلى الغداء، وصعود الدرج في العمل، والسير إلى مترو الأنفاق أو عبر موقف السيارات؛ إلى اعتبار آخر مهم للعمل عن بُعد؛ هو الصحة العقلية.
بحاجة إلى التفاعل
ورغم التقدم التكنولوجي، تزدهر الأدمغة بالعلاقات الشخصية؛ إذ عندما نتعلم شخصيًّا قراءة لغة الجسد، وفهم الفروق الدقيقة في التواصل والعمل بشكل أكثر فاعلية مع الآخرين. وأظهرت الدراسات زيادة معدلات الاكتئاب والقلق أثناء العمل عن بُعد حتى لو كان الأمر أسهل؛ إذ يتولد شعور بالعزلة يتطور عندما يتم استبدال التواصل الشخصي الحقيقي بالتفاعل الافتراضي.


 
 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة