تجربة إدارية.. الاقتصادي«محمد يونس» مؤسس بنـك الفقراء والفائز بجائزة نوبل

​​يقول البروفيسور البنغلاديشي "محمد يونس" مؤسس بنك الفقراء، والحائز على جائزة نوبل السلام العالمية عام 2006م: "الفقر لم يخلقه الفقراء، كلنا نولد رجال أعمال، لكن البعض يحصلون على فرصة لإطلاق هذه القدرة، بينما يوجد آخرون ليسوا بنفس الحظ، أو لا يعرفون أنهم يمتلكون هذه القدرة أصلاً".

التأثير في الملايين
فما هي حكاية "محمد يونس" مع الفقر والفقراء؟ وما هي إنجازاته التي بسببها منح جائزة نوبل؟ وما هي أفكاره ونظرياته الاقتصادية؟ وماذا قدم لمجتمعه؟ وكيف تجاوز التحديات التي واجهته في حياته؟ وكيف يمكن لجهود شخص واحد أن يكون لها كل هذا التأثير الكبير في حياة الملايين من البشر؟
نظريات مجردة 
تبدأ الحكاية في عام 1971م عندما عاد "محمد يونس" من الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتحق بالتدريس بقسم الاقتصاد بجامعة "شيتاغونغ" البنجلاديشية، مدرساً لمادة الاقتصاد، وكان أكثر ما يضايقه أنه كان يقوم بتدريس نظريات اقتصادية مجردة في حين يعاني الناس من حوله من الجوع خارج فصوله الدراسية في بلد فقير ظل يعاني من مجاعات قاسية لسنوات طويلة، حتى أنه كان يذهب إلى القرى للتعلم من الفقراء و ما يحتاجونه، ومعرفة أمور واقعية غير موجودة عنهم في المناهج الدراسية، وخلال تنقلاته اليومية لاحظ وجود مساحات شاسعة من الأراضي الصالحة للزراعة وسط السكان الذين يعانون من الجوع، واعتقد أنه بإمكانه حل تلك المشكلة مع طلابه، فبدأ بالتساؤل: لماذا لا يتم استغلال هذه الحقول؟ وما هي المهارات التي يتمتع بها هؤلاء القرويون؟ وكيف يكسبون عيشهم؟ فأسس مشروع التنمية الريفية بالجامعة الذي يمكن الطلاب من الحصول على شهادة أكاديمية؛ إذا هم ساعدوا الفقراء المحليين، وركز على تكنولوجيا الري، وزراعة الأرز عالي الغلة، كما قام بتجريب مشروع التعاونيات الزراعية التي مولها بنفسه، ورغم نجاح هذه المشاريع الرائدة، إلا أنه شعر بعدم فعل ما يكفي لمساعدة الفقراء، الذين لا يملكون أرضاً زراعية، 
الفقراء الأميون
فذهب في عام 1976م إلى الفرع المحلي لبنك "جاناتا"، أحد أكبر البنوك الحكومية في بنغلاديش، وعرض عليهم فكرة منح القروض الصغيرة للفقراء، إلا أن مديرو البنك رفضوا الفكرة لأن الفقراء أميون، ولن يتمكنوا من ملء الاستمارات اللازمة للحصول على تلك القروض، وليس لديهم أي ضمانات، وبعد مفاوضات، عرض عليهم أن يضمن هو شخصياً قروض هؤلاء الفقراء التي بلغ إجمالي قيمتها 300 دولار، واستغرق الأمر 6 أشهر قبل أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق، وتم تقديم القروض إليه، حيث طلب منه البنك أن يعمل كوسيط، وأن يقوم هو بتقديم الأوراق اللازمة لكل قرض؛ لأنهم لا يريدون التعامل مع الفقراء مباشرة.
مستنقع الفقر
يعدها اجتمع مع الفقراء ليوضح لهم أن هذه القروض هي فرصتهم الوحيدة للخروج من الفقر، وأن تخلفهم عن سداد قرض واحد قد يعني فقدانهم فرصة النجاة من هذا المستنقع. وطلب من المقرضين تجميع مدخراتهم، ليمكن بعد ذلك إقراضها لآخرين، وبحلول عام 1998 تم ادخار 100 مليون دولار بهذه الطريقة. وفي خروج آخر عن المألوف، قام "يونس" بإقراض المال بشكل حصري تقريباً للنساء؛ لأنه وجد أن توسيع نطاق الائتمان لهن يخلق المزيد من التغيير في المجتمع بسرعة أكبر مقارنة مع إقراض المال للرجال، ولسبب أن النساء يشكلن غالبية الفقراء والعاطلين عن العمل والمحرومين اقتصادياً واجتماعياً، ولأنهن كن قادرت على تحسين رفاهية جميع أفراد الأسرة بشكل أكثر سهولة وأكثر نجاحاً مقارنة بالرجال. واستند "يونس" إلى العديد من الدراسات التي تتبعت سلوك المقترضين من النساء والرجال، والتي أظهرت ميل المرأة للتركيز على تحسين حياة أطفالها، فعند حصولها على أموال إضافية تقوم المرأة النموذجية بشراء أدوات للطبخ وإصلاح منزلها أو شراء أسرة، وفي المقابل يميل الرجال إلى إنفاق الأموال المقترضة على أنفسهم.
تجربة إدارية
وتطور هذا الأمر لاحقاً إلى تجربة إدارية رائدة بتأسيس " محمد يونس" لبنك "جرامين"، على الرغم من عدم امتلاكه خبرة سابقة في إدارة البنوك، وخاصة إن كان بنكاً للفقراء وليس لكبار المستثمرين، وقرر النظر في الطريقة التي تعمل بها المؤسسات المالية الأخرى، والتعلم من أخطائها، وغالباً ما قام بفعل عكس ما تقوم به البنوك التقليدية، وعلى سبيل المثال، اعتقد أن تحمل الفقراء قدر كبير من الديون من شأنه أن يثبطهم عن السداد، لذلك كانت القروض الممنوحة من بنك "جرامين" تستمر لسنة واحدة فقط، وكان على المقترضين سداد جزء ضئيل من القرض يومياً، وفي وقت لاحق، أصبحت المدفوعات أسبوعية.
إحداث الفارق
وبالفعل تمكن من إعادة هيكلة "جرامين" كمؤسسة مستقلة، ومع استقلاله تمكن البنك من النمو بسرعة أكبر، ليفتتح 100 فرع سنوياً، وبدأ في تقديم أنواع مختلفة من القروض التي توسع نطاقها ليصل إلى خارج بنجلاديش، وتحديداً في ماليزيا والفلبين ونيبال والهند وفيتنام، وأصبحت المؤسسة التي بدأت في قرية جوبرا في عام 1976م بقرض يبلغ 27 دولاراً أحد أهم البرامج المناهضة للفقر في العالم. ويضم البنك حالياً ما يزيد على 2500 فرع، ويعمل لديه حوالي 26 ألف موظف، وأقرض البنك مليارات الدولارات للملايين من الفقراء بمعدل استرداد قدره 98%.
من هو محمد يونس؟
ولد "محمد يونس" في عام 1940م في مدينة "شيتاغونغ"، وهي مدينة تجارية تضم نحو 3 ملايين نسمة في جنوب شرق جمهورية بنجلاديش. وعاش مع عائلته في منزل صغير مكون من طابقين. والده "دولا ميا" كان مسلماً متديناً يمتلك ويدير محل مجوهرات ناجح في الطابق الأرضي لمنزلهم، وكان حريصاً على تعليم أولاده، وبعد تخرج "يونس" من جامعة "دكا" عام 1961م، بدأ في تدريس علم الاقتصاد، قبل أن يحصل على منحة "فولبرايت" للابتعاث للدراسة في الولايات المتحدة في عام 1965م. وبعد عودته من البعثة 1971م شارك في لجنة للتخطيط الحكومي، ثم استقال ليعمل في الجامعة.


​​

 
 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة