الإدارة الفعّالة.. قصة نجاح متطورة للعمل الخيري والإنساني

​​​​​​يمثل العمل الخيري قيمة إنسانية كبرى تتمثل في العطاء والبذل بكل أشكاله، فهو سلوك حضاري حي ينمو بوضوح في المجتمعات التي تنعم بمستويات متقدمة من الثقافة والوعي والمسؤولية، فهو يلعب دورًا مهمًا وإيجابيًا في تطوير المجتمعات وتنميتها، فمن خلال المؤسسات التطوعية الخيرية يتاح لكافة الأفراد الفرصة للمساهمة في عمليات البناء الاجتماعي والاقتصادي اللازمة، كما يساعد العمل الخيري على تنمية الإحساس بالمسؤولية لدى المشاركين ويشعرهم بقدرتهم على العطاء وتقديم الخبرة والنصيحة في المجال الذي يتميزون فيه.

نهضة
ولقد قامت الخدمات التطوعية الخيرية بلعب دور كبير في نهضة الكثير من الحضارات والمجتمعات ونشر الأفكار عبر العصور بصفتها عملًا خاليًا من الربح العائد، كما لعب المتطوعون دورًا مهمًا كمًا وكيفًا في مسيرة تطور الدول من خلال البرامج الوطنية، في مجالات المساعدات الإنسانية والتعاون التقني وتعزيز حقوق الإنسان، كما يشكل التطوع أيضًا أساسًا لكثير من نشاطات المنظمات غير الحكومية، هذا إضافة إلى كثير من المشاريع في مجالات الصحة والصحة العامة وحماية البيئة.
ولقد حفل التاريخ الإسلامي بتأصيل العمل الخيري بما ورد من آيات قرآنية وأحاديث نبوية تعزز من قيمة العمل الخيري، وتؤكد على اقتران العمل التطوعي بالعبادة ورضا الله سبحانه وتعالى، كما أكدت ذلك الأحاديث الواردة في فضل العمل الخيري.
التنمية الشاملة
ويرتبط مفهوم العمل الخيري والتطوعي بالتنمية الشاملة، من خلال الكثير من تلك الأعمال والبرامج التي تستهدف الإنسان وترقى به ابتداء بالفرد ثم الأسرة ومن ثم تمتد إلى المجتمع، تلك الحلقات الثلاث المترابطة بمجموعها ومفرداتها، فصلاح الأسرة من صلاح الفرد، وصلاح المجتمع من صلاح الأسرة. 
توجهات وقضايا
ومع تطور عمل الجمعيات الخيري برزت في المجتمعات أشكال تنظيمية أخرى ذات بعد مهني، أو ذات توجهات وقضايا تتعلق بحماية البيئة وحقوق الإنسان، فكان ظهور الجمعيات المهنية وتوجهاتها وجمعيات حقوق الإنسان، وغير ذلك من التنظيمات الاجتماعية والخيرية. كما برز للوجود منظمات الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة التي بدأت بالعمل مع الحكومات، وامتدت إلى العمل مع التنظيمات الأهلية الوطنية بصفتها وثيقة الصلة بالمجتمع. 
الإدارة المحترفة
وفي ظل هذا التطور ظهرت الحاجة إلى الإدارة المحترفة في العمل الخيري والإنساني وإبراز روحه الوثابة، بما يضمن الشفافية، وأن تكون كافة الأعمال والأموال معلنة وواضحة، إصدار التقارير المعبرة عن طبيعة العمل الخيري ونشرها، شرعية العمل وعلانيته، القيام بالتوعية المجتمعية، تقوية الصلات بالجهات الرسمية والحكومية، اعتماد استراتيجيات واضحة وأهداف محددة.
إن العمل الأهلي الخيري لم يعد عملًا تلقائيًا، ولكنه دخل مرحلة الاحتراف، ومن ثم فالأخذ بالأسلوب العلمي في الإدارة والاستعانة بالكفاءات الإدارية أضحى أمرًا أساسيًا.
التنظيم الاداري
التنظيم الإداري يعني تنظيم الأعمال التطوعية والهيئات الإدارية، وكيفية اتخاذ القرار ورسم السياسات ووضع الخطط والبرامج. وعلى صعيد العاملين يعني عناصر قادرة لها رؤية وتقوم بالعملية التنفيذية باتباع الأساليب الإدارية الحديثة في التخطيط والتنظيم والإدارة، وأداء الأعمال من ناحية إعداد المشاريع وتنفيذها، وما يتعلق بالمتابعة والتقييم وإعداد التقارير، والقيام بأعمال الدعوة والإعلام، وربط الصِّلات مع المنظمات الأهلية والأُطر الرسمية في داخل المجتمع، ودعوتها للمشاركة في الأعمال، إلى جانب المحافظة على الجودة الشاملة في تنفيذ البرامج والمشروعات. كل ذلك يحسب للعمل الأهلي ويرفع من شأنه ويضعه في مصاف الأعمال الجديرة بالتقدير.
ثقافة التطوع
على المستوى الوطني، تمثل ثقافة التطوع والعمل الخيري صفة ملازمة للمجتمع السعودي ومتجذرة في نفوسهم، وتُعد قيم العطاء والتراحم ومدّ يد العون ومساعدة المحتاجين نهجًا أصيلًا راسخًا دأبت عليه المملكة العربية السعودية عبر تاريخها القويم، حتى أصبح العمل الخيري والإنساني السعودي نبراسًا عالميًا يُحتذى، وعلمًا بارزًا يُقتدى به، وأصبحت المملكة العربية السعودية رائدة في هذا المجال على الصعيد الدولي، نظير جهودها الإنسانية والإغاثية الكبيرة التي غطت مشارق الأرض ومغاربها، وشهد لها القاصي والداني.
المملكة من أوائل الدول
فالمملكة من أوائل الدول التي أولت أهمية كبرى لبرامج العمل الخيري والإغاثي، فمنذ عهد الملك المؤسس الملك عبد العزيز طيب الله ثراه، أنشئت المؤسسات الخيرية ومراكز الإغاثة وفرق العمل لإدارة وتنسيق العمل الإغاثي على المستويين المحلي والدولي بما يضمن تقديم الدعم للفئات المتضررة بما لا يتعارض مع المصالح الوطنية، وقد كان التنظيم أساسًا للنجاح، حيث تم تقديم الدعم والمساعدات الإنسانية والإغاثية والخيرية لمئات الدول حول العالم.
وتعتبر المملكة اليوم من قلائل الدول التي دأبت باستمرار على تطوير الشراكات مع المنظمات الرائدة في العمل الإنساني وتطوير آلية فعالة تضمن الاستجابة السريعة للتعامل مع الأزمات الإنسانية الداخلية والخارجية، وزيادة أثر المساعدات المقدمة من المملكة لجميع دول العالم بهدف استدامتها من خلال تحسين عمليات الإشراف والمتابعة والتقييم.
تطورًا ملموسًا
ورغم أن العمل الخيري حقق تطورًا ملموسًا على جميع الصعد فإنه ما زال بحاجة إلى مزيد من التطور من خلال تبني مؤسساته لمبدأ التخطيط الاستراتيجي من منظور مجموعة من الخبراء والمهتمين، حيث عانى في كثير من الفترات من المعوقات الإدارية والتنظيمية في عدد من الجوانب ومن أهمها: أن الكثير من مؤسسات العمل الخيرية تواجه عدم وضوح الرؤية والاستراتيجيات واتساع الأهداف، مما يربك عملها ويشتت جهودها. كما تفتقر العديد من المؤسسات إلى الأنظمة الإدارية المؤسسية وحتى تلك المؤسسات التي تمتلك أنظمة إدارية فهي بحاجة إلى التطوير ومواكبة التقنيات والتطورات في عالم الإدارة بما يعزز من أدائها ويرقى ببرامجها.
المعايير الإدارية
لذا أصبح من الضروري الاهتمام بالعمل الخيري من مختلف المستويات، ومن ذلك الاهتمام بتجويد أعمال الجمعيات وتحسين مخرجاتها بتطبيق النظم والمعايير الإدارية الناجحة المرتبطة بالجودة. فإذا كانت مؤسسات القطاع الخاص قد اعتنت بتطبيق معايير الجودة، لكسب رضا العميل بهدف تحقيق أكبر قدر من الربح المادي، فإن الجمعيات الخيرية أحوج ما تكون لتطبيق الجودة في أدائها لارتباط عملها بشكل مباشر بشريحة الفقراء والمحتاجين ودورها في تحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية تحقيقا لمبدأ التكافل. إذ تعد الجودة من المفاهيم الإدارية الحديثة، لخفض التكاليف واختصار وقت إنجاز المهام، مع رفع مستوى أداء العاملين بالمؤسسة، وتكوين بيئة تدعم وتحافظ على التطوير المستمر.
خادم الحرمين
ويُعد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله-، رائدًا للعمل الخيري في المملكة، إذ كان له الفضل بعد الله عز وجل في تأسيس ورعاية ودعم العديد من الجمعيات والمؤسسات الخيرية، وما يزال مصدر دعم ومساندة لكل عمل خيري وإنساني في الداخل والخارج. ففي هذا العهد الميمون تنامى العمل الإنساني السعودي وشهد تطورًا لافتًا، حيث عززت رؤية 2030 من قيمة العمل الخيري، ووضعت خطة لزيادة عدد المتطوعين من 11 ألف متطوع إلى مليون متطوع بحلول عام 2030، وتطوير أداء الجمعيات الخيرية حتى يكون لها دور مهم في الناتج المحلي ورفع نسبته من أقل من 1% إلى 5%، وذلك نتاج رؤية ثاقبة وإرادة عظيمة ومبادرة كريمة من خادم الحرمين الشريفين الذي وجه -رعاه الله- بتأسيس مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، ليوحّد مسيرة العمل الإنساني والإغاثي السعودي سواء كان مصدره حكوميًا أو شعبيًا، ويكون مظلة لكافة الأعمال الإنسانية والإغاثية الخارجية للمملكة، بما يضمن تقديم عمل مؤسسي ومنظم وفق المعايير الدولية والعالمية، وليُظهر الدور المهم الذي تسهم من خلاله مملكتنا الغالية في مجال العمل الإغاثي والإنساني على المستويين الإقليمي والعالمي.
منظومة القيم
وواصلت المملكة مسيرتها نحو تعزيز منظومة القيم الاجتماعية والإنسانية، حيث صدر قرار مجلس الوزراء بالموافقة على تنظيم المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، الذي سيعمل على تنمية القطاع غير الربحي وتحقيق أثر أعظم للقطاع على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي من خلال: تنظيم دور منظمات القطاع غير الربحي وتفعيله وتوسيعه في المجالات التنموية والعمل على تكامل الجهود الحكومية في تقديم خدمات الترخيص، إضافة إلى الإشراف المالي والإداري والفني بالتنسيق مع الوحدات الإشرافية في الجهات الحكومية وزيادة التنسيق والدعم من خلال التواصل مع الجهات الحكومية المعنية، ويشرف المركز على مختلف الجمعيات والمؤسسات الخيرية، من خلال وضع خطط بناءة تساعد في تحقيق أهداف بعيدة المدى بشكل منسق، قائم على أسس ومبادئ وقيم تنظيمية محددة، بما يدفع بالعمل الخيري وتحقيق أهدافه على الأصعدة كافة وتمكينه من تحقيق مستهدفاته في نشر ثقافة وتأصيل العمل الخيري كمرتكز تنموي حيوي.
الموثوقية
كما تعد "منصة إحسان" التي تم إطلاقها بهدف رفع مستوى الموثوقية والشفافية في العمل الخيري ورفع مساهمة القطاع الخيري في إجمالي الناتج المحلي، دعمًا من القيادة الرشيدة لتعزيز الروابط بين أفراد المجتمع، وتقوية الثقة في المؤسسات غير الربحية في تحسين واستدامة برامجها إضافة إلى تفعيل وتعزيز المشاركة المجتمعية والإسهام في البذل والعطاء، امتثالًا لتعاليم الدين الإسلامي، وتماشيًا مع حرص حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وسمو ولي عهده الأمين –حفظهما الله- لرعاية العمل الخيري ودعم المشاركة والمساهمة فيه .
ويمثل دور المنصة الوطنية للتبرعات "تبرع" التي تأسست بقرار معالي وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية رئيس مجلس إدارة المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي الحل الأسهل والأمثل لإيصال المتبرع بالمحتاج في مختلف مناطق ومحافظات ومدن المملكة من خلال عملية تبرع آمنة وشفافة؛ حيث تنفرد هذه المنصة بكونها جهة موثوقة تضم أبرز الجمعيات الأهلية التي تتلقى التبرعات والصدقات وغيرها من أوجه العطاء؛ في الوقت الذي يسعى خلاله المركز على أن تعزز المنصة التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع وضمان توجيه التبرعات لمستحقيها.   
الجامعات السعودية
وبدورها واكبت الجامعات السعودية هذا التحول في إدارة العمل الخيري والإنساني بالمملكة، حيث تم استحداث برنامج دبلوم إدارة العمل الخيري والذي يهدف إلى المساهمة في دعم و تطوير العمل الخيري من خلال تأهيل الكوادر البشرية القادرة على إدارة الأعمال الخيرية المؤهلة مهاريًا وعلميًا بما يساهم في سد حاجة المملكة من المؤهلين في مجال العمل في هذا القطاع، وتزويد الطلبة بأحدث المعارف والنظريات العلمية في  مجال الإدارة بشكل عام وإدارة العمل الخيري بشكل خاص، ورفد القطاعين الخيري والتنموي بإداريين متميزين ومبدعين، فضلًا عن نشر ثقافة التنمية المستدامة والمسؤولية الاجتماعية بين أفراد المجتمع. ويضع هذا البرنامج الشباب السعودي أمام فرص وظيفية كبيرة، حيث إن جميع المنشآت الخيرية هي بحاجة إلى متخصصين في مجال إدارة العمل الخيري. 
توظيف الموارد
ومما لا شك فيه أن كل هذه التطورات تجسد إدراك المملكة لأهمية الإدارة في العمل الخيري والإنساني بما يضمن القدرة على تنفيذ الأعمال والمشروعات الخيرية وإدارتها بإتقان وإحسان من خلال توظيف الموارد المادية والبشرية واستغلالها الاستغلال الأمثل، إذ يدير هذه المؤسسات الخيرية خبراء كما يتوافر لها نظام محاسبي دقيق ومتابعة من داخل المؤسسات إضافة إلى المحاسبة التي تقوم بها الجهات الحكومية ذات الصلة، إضافة إلى تطبيق معايير الحوكمة الرشيدة، والشفافية، والإدارة المؤسسية، والجودة، حيث إن غياب المعايير الوطنية والعالمية في إدارة العمل الخيري، والتي لها مرجعيات مهنية معتمدة من منظمات التقييس العالمية أو المنظمات الدولية ووكالاتها المتخصصة في مجال العمل الخيري والإنساني، يجعل إدارة مؤسسات العمل الخيري أقرب إلى الاجتهادات الشخصية.
تحقيق الفوائد
ختامًا إن هذا التقدم والتطور والاهتمام بتفعيل الإدارة في العمل الخيري والإنساني وسن وتطبيق الأنظمة واللوائح التنفيذية لتنظيمه سيسهم بدوره في تحقيق الفوائد الاجتماعية والاقتصادية للعمل الخيري، من خلال تقوية أواصر التواصل والتكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع السعودي، وغرس مشاعر الود والألفة والمحبة بينهم، أما اقتصاديًا، فإنَّ العمل الخيري، سواء أكان يقوم به الأفراد، أو المؤسسات الخيرية، أو الشركات من خلال برامج المسؤولية المجتمعية، يؤدي عدة أدوار اقتصادية، ولعل أبرزها أنه يعد موردًا اقتصاديًا للمحتاجين من خلال تلبية بعضٍ من احتياجاتهم ورغباتهم الحالية والمستقبلية.



 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة