الاستقالة الهادئة


فور سماعك هذا المصطلح، سيتبادر إلى ذهنك أن المستقيل-بهدوء-قد تقدم باستقالته إلى مؤسسته وغادر بهدوء، ولكن الحقيقة أنه لم يتقدم باستقالته فعليًا، فهو باق في مؤسسته، لم يرحل عنها. يتقاضى راتبه الشهري من مالها، وحاضر بجسده فيها، لكنه غائب عنها نفسيًا، ولا يؤدي إلا الحد الأدنى من مسؤولياته الوظيفية، ولا ينجز إلا مهامه الأساسية فقط. يؤدي عمله بلا همة ولا نشاط ولا حماس، ولا يحضر مبكرًا إلى عمله، ويغادر فور انتهاء مواعيد العمل الرسمية. لا يحضر الاجتماعات إلا إذا كانت ضرورية، وإن حضر يجلس صامتًا، ولا يتحدث إلا إذا طُلب منه. يتجنب حضور المناسبات الاجتماعية، ويحصل على إجازات مرضية أطول من المعتاد، ولا يرد على رسائل البريد الإلكتروني التي تصله عقب انتهاء الدوام.
ظهر هذا المفهوم وانتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي عام 2020م، حيث حظيت مقاطع الفيديو الخاصة به-والتي كانت تبث على موقع التواصل الاجتماعيTick Tock –بإعجاب العديد من العاملين، وحظي بشهرة واسعة بالولايات المتحدة الأمريكية؛ الأمر الذي دفع مؤسسة جالوب Gallup عام 2022م إلى القيام بمسح ميداني على العاملين في عدد من المؤسسات الأمريكية، للتعرف على ما إذا كان شائعًا بها أم لا، فانتهى المسح إلى أن نصف القوى العاملة الأمريكية هم من المستقيلين بهدوء؛ كما أشار المسح أيضا إلى أن النسبة كانت مرتفعة بين العاملين الذين تقل أعمارهم عن 35 عامًا. وعلى الرغم من أن هذا المصطلح قد ظهر في عام 2020م، إلا أنه يعتبر ظاهرة قديمة جدًا، تمثل أحد صور الاستياء الوظيفي، يلجأ إليها الأفراد عند رغبتهم في ترك وظائفهم الحالية والبحث عن أخرى، أو عندما لا تتوافر لديهم فرص للنمو الوظيفي، أو بسبب تدني رواتبهم، أو في حالة زيادة أعباء العمل عليهم، أو قد يكون بسبب عجزهم عن التوفيق ما بين حياتهم الشخصية والعملية.
ويدعونا هذا إلى التساؤل عن موقف المديرين، وردة فعلهم تجاه المستقيلين بهدوء: هل يصمتون على سلوكهم أم يحاولون إعادة دمجهم نفسيًا في العمل، أم يتخذون ردة فعل عنيفة حيالهم؟ في الحقيقة، هناك بعض المديرين قد يتسامحون مع هذه الظاهرة؛ لصعوبة استبدال المستقيل الهادئ، أو أملًا في تبدل الحال وتغير الوضع مع الوقت؛ بينما لا يفضل البعض الآخر الوقوف مكتوفي الأيدي أمام تلك الظاهرة، ويتصدى لها بكل حزم، حيث قد يتخذ قرارًا بفصله، أو ربما يلجأ إلى ما يعرف بأسلوب الفصل الهادئ quite firing، إذ يبدأ في التضييق على المستقيل الهادئ بحرمانه من بعض فرص التدريب والتنمية والعلاوات والحوافز المالية، فيجعل عمله غير مجديًا بالنسبة له، وهو ما يدعوه إلى الاستقالة الفعلية وترك المؤسسة.
وفي الختام نقول إن هذه الظاهرة وإن كانت خفية إلا أنه يمكن الاستدلال عليها بكل سهولة من سلوكيات أفرادها، وإذا ما تحققت إدارة المؤسسة من وجودها، فلا يجب عليها الصمت تجاهها، وإنما ينبغي عليها التدخل للحيلولة دون تفاقمها، وذلك بتقدير العاملين وتقديم أجور ومرتبات عادلة لهم، والحرص على الاستماع إليهم والتعرف على آرائهم وأفكارهم ومقترحاتهم وتهيئة الظروف المناسبة لهم.

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة