الإدارة والأعمـــــــــــــــــــال تحـت «تأثير المتفـرج»

​​​​​​عندما تقع تجاوزات أو حوادث وانتهاكات واعتداءات، ونرى المحيطين وشهود العيان يتهافتون على التقاط الصور والفيديوهات عبر جوالاتهم، سواء لبثها عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو لتوثيقها؛ فإننا جميعًا نشعر بالغضب ونردد: هل يقتصر دور كل هؤلاء على أنهم مجرد "متفرجين"؟ هذا بالضبط ما قد يحدث في عالم الإدارة والأعمال عندما تحدث تجاوزات سلبية أو تقصير في الأداء، وفي جنبات المجتمع الوظيفي، كالمحسوبية، والتنمر، والتجاوزات المالية بجل صورها، وتجاهل بروتوكولات إجراءات السلامة في أماكن العمل، دون أن يحرك عدد لا يُستهان به ممن كانوا شهودًا عليها ساكنًا، ولا يقومون بالإبلاغ عن مثل هذه الانتهاكات والاعتداءات وهذا التقصير؛ بحجة أنه ربما يتعرض أمنهم الوظيفي للخطر، ويلتمسون العذر لأنفسهم في أن يتحرك أحد غيرهم، وهو ما يسمى بـ "تأثير المتفرج" الذي نتعرف معكم عليه، وعلى أشكاله وتطبيقاته في عالم الإدارة والأعمال، ومقترحات مواجهته والحد منه، في هذا التقرير. 

أصلها في نيويورك
يشير "تأثير المتفرج Bystander Effect"-بحسب منصة dokeos الإلكترونية-إلى ميل بشري يعبر عن فشل الناس في التدخل لوقف فعل يمثل مخالفة أو سلوكيات وممارسات سلبية وضارة. وهو ما توضحه منصة The conversation الإلكترونية بأنه كلما اجتمع عدد أكبر من الأفراد في مكان واحد، كلما قلت فرصة أن يأتي أحدهم للمساعدة أو التدخل لمواجهة مثل هذا التجاوز. بينما عندما يحدث ذلك، في حالة عدم وجود أحد أو وجود عدد أقل من الناس أو الشهود؛ فمن المرجح أن يحدث مثل هذا التدخل وهذه المواجهة. لطالما ثبت أن وجود أشخاص آخرين يثير الارتباك بشأن المسؤولية؛ ولذلك فمن المفترض أن يتم توزيع مسؤولية اتخاذ الإجراءات بالتساوي بين الحاضرين. 
وتجدر الإشارة إلى أن لهذا التأثير أصل مأساوي-وفقًا لما تذكره منصة dokeos-ففي نيويورك عام 1964 تعرضت امرأة تدعى "كيتي جينوفيزي" للاعتداء من قبل أحد الأشخاص يحمل سكينًا، وهي في طريق عودتها من عملها إلى منزلها. وبالرغم من أنها طلبت المساعدة من المارة بالشارع، إلا أن أيًا منهم لم يقدم لها المساعدة أو حتى الاتصال بالشرطة؛ وترتب على ذلك وفاة "جينوفيزي".
ويبرز موقع studiosguy أن هذا الاعتداء لفت نظر كل من: "جون دارلي" و"بيب لاتاني"-من علماء النفس-فقاما بشرح وصياغة ظاهرة "تأثير المتفرج" لأول مرة عام 1968م، بعد إجراء عدد من التجارب للتأكد منه؛ فقد أوضحا أنه مع زيادة عدد الأشخاص في مثل هذه المواقف والحالات، يصبح الناس أقل احتمالًا لتقديم المساعدة أو الإبلاغ عن التقصير أو التجاوزات.
"ريتشموند" و"موريس"
ويسرد الموقع نفسه عددًا من النماذج التي تكررت للتأكيد على حدوث "تأثير المتفرج"، والتي نذكر اثنين منها للتوضيح، أولهما يتعلق بحالة فتاة تبلغ من العمر 15 عامًا، تعرضت للاغتصاب الوحشي والضرب المبرح على يد 10 رجال لمدة ساعتين ونصف الساعة، وذلك عام 2009م، خلال إحدى الحفلات بمدرسة "ريتشموند" الثانوية. وقد أفادت التقارير بوجود حوالي 10 أشخاص آخرين يقفون كالمتفرجين حول مسرح الجريمة، ويقومون بالتصوير فقط باستخدام جوالاتهم، وبالرغم من تزايد عدد هؤلاء المتفرجين تباعًا، إلا أن أحدًا منهم لم يقم بإبلاغ الشرطة.
وقد تكرر الأمر ذاته عام 2019م مع "خاسين موريس" الطالب في المدرسة الثانوية البالغ 16 عامًا من العمر، والذي تعرض للطعن بالسكين على يد مجموعة من المراهقين، وتوفي عقب نقله للمستشفى؛ بينما وقف المحيطون (المتفرجون) بمسرح الحادث ليلتقطوا الصور ومقاطع الفيديوهات فقط.
تحسين الأداء
وفي ضوء ذلك، فإن "تأثير المتفرج" يحدث في مجالات الإدارة والأعمال، ويتكرر-ربما يوميًا-في العديد من الشركات وغيرها من الجهات والمؤسسات، حيث تقع العديد من التجاوزات السلبية والانتهاكات وقصور في الأداء. فيسلط موقع Business2Community الضوء على سيناريو واقعي ومتكرر في شركات ومؤسسات عديدة، وهو أن يكون لدى المؤسسة بأكملها نفس وجهة النظر-تقريبًا-حول مجموعة الأشياء التي يجب القيام بها لتحسين الأداء. فلماذا لم يتم اعتماد هذه التغييرات على الفور؟ ووفقًا لهذا السيناريو الواقعي، يتحقق "تأثير المتفرج"؛ إذ يلاحظ جميع العمال والموظفين نفس العلامات، ومن المحتمل أن يصلوا جميعًا إلى مجموعة الاستنتاجات ذاتها بشأن تدني الأداء، ومع ذلك فهم لا يعرضون أفكارهم ولا يتخذون أي إجراء حيال هذا الأمر؛ وهو ما يمكن تفسيره في ضوء افتراض أساسي لديهم بأن اتخاذ الإجراءات أو اتخاذ القرارات هو مسؤولية شخص آخر.
"المتفرجون" وتجاوزات إدارية
كذلك تسلط منصة dokeos الضوء على "تأثير المتفرج" في مكان العمل، فتشير إلى أنه لسوء الحظ، لا يقتصر هذا التأثير على الأشخاص الذين يشهدون جريمة تحدث في الشوارع. إذ هناك حالات لا حصر لها للموظفين الذين يشهدون مخالفات في مكان العمل ويختارون التزام الصمت، وهو ما يُعرف أيضًا باسم التواطؤ في مكان العمل. والذي يتمثل على سبيل المثال-لا الحصر-في كلٍ من: المحسوبية، والتنمر والتحرش، والتمييز الصارخ، والمخالفات والتجاوزات المالية وسرقة أموال الشركة، والاعتداء على مواردها الأخرى، وتجاهل بروتوكولات وتطبيق إجراءات السلامة.
وبصرف النظر عما ورد أعلاه، تنقل dokeos أن إدارة الصحة والسلامة في المملكة المتحدة أبلغت عن 739 ألف حادثة من المضايقات/التنمر في مكان العمل في عام 2019م، والتي أدت إلى العنف الجسدي، بدون ما يفيد بتدخل شهود عيان (متفرجين).
وفيما يتعلق بتطبيقات "تأثير المتفرج" في المجتمع الوظيفي، تذكر المنصة أنه قد يتردد الموظفون في التحدث أو التصرف حيال هذه التجاوزات والانتهاكات الإدارية والوظيفية؛ ربما لنفس الأسباب، مثل أن يشهد شخص ما وقوع انتهاكات تصل لحد الجرائم أو تقصير في مكان العمل، وبالمثل فإنهم قد يخشون أن يؤدي التورط إلى تعريض أمنهم الوظيفي للخطر. كما تلفت المنصة إلى أن بعض الموظفين ينظرون إلى مثل هذه الأحداث والتجاوزات والاعتداءات-في أغلب الأحيان-على أنها ربما أصبحت شبه عادية. وفي بعض الحالات، قد يكون هناك-أيضًا-نقص في التدريب والتأهيل اللازم الذي يحدد الخطوات التي يجب اتخاذها حال وقوع مثل هذه الأحداث السلبية.
أهمية التدريب
ويتطرق موقع معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا mitsloan.mit.edu الأكاديمي والمعنِي بالمجال الإداري إلى أهمية ودور التدريب في الحد من "تأثير المتفرج"، مؤكدًا أن تدريب المديرين على كيفية الاستماع إلى الموظفين الذين قد يكونوا شهودًا على تجاوزات معينة (المتفرجين)، لا يقل أهمية عن تدريب الأقران والمارة-في الشارع الذين يكونون شهودًا على وقوع أحداث عنف أو جرائم أو مواقف طارئة-على كيفية تقديم المساعدة. فعلى سبيل المثال، إذا جاء إليك موظف-بصفتك مديرًا-وقال إنه يريد إخبارك بشأن شخص يرتاب في تصرفاته بالمؤسسة، أو إن أحدهم يكتب تقارير احتيالية في عمله، فهذه النوعية من الملاحظات يجب التدريب عليها وكيفية التعاطي معها، سواء بالإبلاغ عنها من قِبَل الموظفين (المتفرجين)، أو الاستماع إليها من جانب المديرين، والإدارة العليا.
4 آليات مقترحة
وتؤكد منصة dokeos أن الموظف المثالي لا يؤدي فقط عملًا جيدًا، ولكنه يفعل الشيء الصحيح أيضًا من الناحية الأخلاقية. ومع ذلك، فمن المفهوم لماذا يختار بعض الموظفين عدم التدخل؟ حيث إنه من وجهة نظر "تأثير المتفرج"، هناك مكون نفسي كبير يمنع الناس من المبادرة والإقدام على اتخاذ مواقف وردود أفعال إيجابية. ولذلك فإن المنصة تقترح فيما يلي 4 آليات يمكن من خلالها تشجيع الموظفين على الإبلاغ عن أي مخالفات في بيئة العمل أو مواجهتها؛ للحد من هذا التأثير، وهي:
1- الإبلاغ عن التجاوزات والانتهاكات الإدارية والوظيفية دون الكشف عن هوية الموظفين، وإتاحة خط ساخن يحقق هذا الغرض.
2- إجراء مقابلات قبل ترك الوظيفة أو التقاعد: وذلك مع الموظفين الذين يغادرون الشركة أو الجهة، والاستفسار عما إذا كانوا قد شهدوا أي مخالفات خلال فترة خدمتهم الوظيفية. فإذا أجابوا بالإيجاب، فيجب طرح أسئلة للمتابعة. ومن الضروري طرح الأسئلة عن العوامل التي يجب أن تكون موجودة لحثهم على اتخاذ الإجراءات اللازمة؛ فقد يكون الموظفون المغادرون أكثر ميلًا إلى أن يكونوا صادقين بشأن ما شاهدوه خلال فترة خدمتهم، لأنه-غالبًا-لم يعد هناك داعٍ لتعرضهم للتنكيل والاضطهاد الوظيفي.
3- الالتزام بتطبيق سياسة عدم التنكيل أو الانتقام: من المهم تضمين مواثيق العمل في الشركة بنودًا تحمي الموظفين من أي أعمال انتقامية من قِبَل الإدارة، من خلال تحديد سياسات منضبطة تحمي المبلغين عن المخالفات. على سبيل المثال، يمكن تضمينها بندًا ينص على أن أي إجراءات تأديبية من قبل كبار المسؤولين ستتم مراجعتها وربما إلغائها.
4- إتاحة وسائل وأساليب متعددة للإبلاغ عن التجاوزات: فقد لا يشعر بعض الموظفين بالراحة تجاه وسائل معينة للإبلاغ، فمثلًا قد يخشون إمكانية التعرف على صوتهم من خلال الإبلاغ عبر الاتصالات الهاتفية. كذلك قد يشعرون أنه يمكن تتبع بريدهم الإلكتروني إذا تم اختراق حساب الشركة. وتقترح المنصة في هذا الشأن، إتاحة وسائل مختلفة للموظفين لإعداد تقرير، والتي يمكن أن تشمل: رسائل البريد الإلكتروني الخاصة، تخصيص خط ساخن للمبلغين، والبريد التقليدي، والرسائل الخاصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وصندوق الاقتراحات والتعليقات والشكاوى بجهة العمل، واللقاء المباشر مع جهة الإدارة عبر سياسة الباب المفتوح.



 
 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة