التحول الرقمي السعودي بين الماضي والحاضر والمستقبل

​​​تتسابق الأمم والمنظمات الحكومية في العصر الحاضر لتحقيق الاستفادة التامة من التطور التكنولوجي المتسارع؛ وذلك لتحسين الخدمات الحكومية ورفع مستوى جودتها. ولم يفت على وطننا، بقيادة سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان-يحفظهما الله-هذا التوجه الحضاري. لذا فلقد خصصا–يحفظهما الله–مستهدفاً واضحاً لتطوير مختلف جوانب الحكومة الرقمية في المملكة ضمن برنامج التحول الوطني في رؤية ٢٠٣٠. وبالأمس القريب، احتفت المملكة بأول ملتقى للحكومة الرقمية بتنظيم من هيئة الحكومة الرقمية وبمشاركة العديد من الجهات الحكومية الرائدة في التحول الرقمي؛ وذلك لاستعراض أبرز الإنجازات والتطورات الوطنية الرقمية. ومن أبرز الإنجازات التي تحققت هذا العام هو ارتقاء المملكة العربية السعودية إلى المركز الثالث في مؤشر نضج الحكومات الرقمية للبنك الدولي، وأيضاً صعود المملكة 12 مرتبة في مؤشر الولايات المتحدة للحكومات الرقمية. وبالرغم من هذه الإنجازات التاريخية والمتقدمة فما زالت المملكة بقيادتها الرشيدة تطمح لما هو أعلى وأسمى؛ حرصاً منها على مواكبة كل ما هو جديد دعماً للاقتصاد السعودي وتحقيقا لكل ما فيه نفع للوطن والمواطن. وانطلاقاً مما سبق استعرض في هذا المقال المختصر أبرز نقاط التحول في مسيرة التحول الرقمي للمملكة، وأبرز التوجهات المستقبلية والتحديات في مجال الحكومات الرقمية.

نظرة إلى الماضي
تُعرف الحكومة الرقمية-عموماً-باستخدام تقنية الاتصالات والمعلومات من قِبَل القطاع العام في كل ما من شأنه تسريع وتجويد وتسهيل الخدمات التي تقدمها. وتكمن أهمية هذه الحكومة في قدرتها على تميكن القطاع العام من التطوير التنظيمي، وتحسين إيصال الخدمات الحكومية، ومساعدة القطاع العام على إنماء علاقتهِ مع المواطنين. وقد بدأ الاهتمام بمفهوم الحكومات الإلكترونية في المملكة بصدور الأمر السامي الكريم رقم (٧/ب/٢٤٢٧) بتاريخ ١٦/١/١٤٢٤هـ المتضمن الموافقة على قيام وزارة المالية بإنشاء برنامج الحكومة الرقمية؛ ومن ثم زاد الاهتمام بالحكومة الالكترونية، حيث تم إنشاء برنامج التعاملات الحكومية (يسّر) في عام ١٤٢٦هـ؛ لمواكبة أبرز التطورات الرقمية وإدراجها في العمل الحكومي. وبناء على ذلك فقد استطاعت جميع القطاعات الحكومية في الوقت الحالي الاستفادة من الحلول التقنية والإنترنت؛ لأتمتة الإجراءات الحكومية وتمكين المواطنين من إتمام العمليات والمعاملات عبر الإنترنت. وقد ظهرت هذه الاستفادة جلية أثناء أزمة كورونا، سواء في القطاع التعليمي حيث استطاعت منصة مدرستي تفعيل التعليم عن بُعد خلال عشرة أيام من بدء الحظر، أو في القطاع الصحي الذي منح المواطنين والمقيمين فرصة حجز مواعيد الفحص والتطعيم ضد فيروس كورونا، أو القطاعات والتطبيقات الأخرى، مثل "توكلنا" و"أبشر" وغيرها، وهذه التطبيقات جميعها تتماشى مع النموذج الكلاسيكي للحكومات الرقمية (Transactional Model). 
وفي السنوات الأخيرة اتجهت المملكة للاستفادة من تقنيات الويب 0.2 التي تسمح بمشاركة المعلومات بين مستخدمي الإنترنت، فأطلقت عدة جهات تطبيقات قائمة على البيانات والمعلومات القادمة من المواطنين لتعزيز فعالية وكفاءة الخدمات العامة، ويعرف هذا المفهوم بالـ (Citizens-Sourcing)، ومن أشهر التطبيقات الحكومية التي أتبعت هذا المفهوم: تطبيق "كلنا أمن"، وتطبيق "بلدي". كذلك فإن تقنيات الويب 0.2 مكنت المملكة من إشراك المواطنين في عملية الحوكمة للشأن العام عبر المشاركة في تحرير السياسات العامة من خلال منصة "استطلاع"، ويعرف هذا النموذج بالمشاركة الإلكترونية (E-participation). كذلك فقد استفادت العديد من الأجهزة الحكومية من تطبيقات التواصل الاجتماعي الناتجة من تقنيات الويب 0.2، مثل Twitter؛ إيمانًا بأهمية التواصل الفعال مع المواطنين والاستفادة من أثره على الرضاء العام الذي ينتج عن قدرة الجهات الحكومية على نشر المعلومات للمواطنين والتجاوب مع استفسارات المواطنين بشكل شبه فوري.
نظرة للمستقبل
وفي السياق ذاته، أعربت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي مؤخراً خلال ملتقى الحكومة الرقمية عن إطلاقها رزمه من المبادرات التي تختص بالأمن والخصوصية وإدارة البيانات الحكومية. ومن أبرز هذه المبادرات التي ترسم التوجهات المستقبلية كان الإعلان عن بنك البيانات الوطني، وهو عبارة عن خزنة وطنية شاملة لجملة من البيانات الحكومية. ومن خلال هذه المبادرة فإن التوجه قائم على ربط وتكامل الجهات الحكومية بيانياً، وبالتالي تتجه الخدمات الرقمية لتصبح أكثر فعالية بناء على مساهمة البنك في تعزيز المشاركة المعلوماتية بين الجهات. إضافةً إلى تعزيز الكفاءة والجودة والأمن السيبراني؛ بسبب المركزية في مركز البيانات التي تعمل على تقليل تكرار أعمال وتوحيد المعايير والسياسات. كما تم إطلاق ٢٤٠ واجهة لبرمجيات التطبيقات (Application Programming Interface) وهي رزمه من التعريفات والبرتوكولات التي تمكِّن من التواصل بين موردي البيانات والتطبيق المستفيد. وتتمثل الفكرة هنا في فتح منافذ بين الجهات الحكومية لكي تتمكن من الاستفادة من البيانات المجمعة لدى بعضها البعض وتحقيق الترابط والتكامل المؤسسي من الناحية المعلوماتية بشكل آني. وتمكِّن هاتان المبادرتان المملكة من الانتقال لأعلى درجات النضوج الأفقي المتكامل، وهو ما يعرف بـ (Horizontal Integration Model). 
إضافةً إلى أن المملكة تتجه بشكل تسلسلي متسارع من مجرد عرض المعلومات الحكومية وأتمتة الإجراءات إلى استخدام التقنية في تمكين الاقتصاد الرقمي. بمعنى آخر، فإن الحكومة تتجه إلى أن تكون منصة ((Platform تدعم جميع القطاعات الخاصة والعامة رقمياً، ودليلاً على ذلك أيضاً الاهتمام بسياسات البيانات المفتوحة، والتي تنص على إتاحة الوصول إلى البيانات الحكومية بشكل عام. ونظراً لاهتمام المملكة بتمكين الجيل الخامس؛ فإن المستقبل يتجه لتمكين استخدام انترنت الأشياء (Internet of Things) والذكاء الصناعي (Artificial Intelligence) والتي تعتبر من أهم العوامل للتحول للمدن الذكية. هنا الاهتمام والتوجه يكمن في دعم الإبداع والابتكار في الحكومة، وذلك بالشراكة والتعاون مع الأفراد والقطاع الخاص والقطاع غير الربحي. فمن خلال تحليل البيانات المفتوحة يستطيع رواد الأعمال ابتكار نماذج رياديه تقنيه تحقق أرباحاً مادية؛ تعود برفع الناتج المحلي وفي الوقت نفسه تقوم بحل كثير من مشاكل الشأن العام، سواء في السياق الاقتصادي أو الأمني أو البيئي أوغيرها من المجالات. وكل هذا يتمشى مع أبرز التوجهات الحديثة في مجال الحكومات الرقمية التي تهدف لجعل العمل الحكومي أكثر ذكاءً وفعالية، وهذا التوجه يعرف بالنموذج الذكي (Smart Government). 
أبرز التحديات
وفيما يتعلق بأبرز التحديات للحكومة الرقمية، فهي تتمثل في أن هذه التحولات والتطورات التقنية في القطاع الحكومي تستدعي التحول من النموذج البيروقراطي الكلاسيكي إلى نموذج الحكومة المنفتحة (Open Government)، التي تتصف بالشفافية والمشاركة. فنموذج الحكومات المنفتحة تبني على افتراض أن المعرفة والتخصص والخبرة موزعة بين أفراد المجتمع، وأن حل المشاكلات العامة يكون بالمشاركة والتعاون مع الآخرين سواء أفراد أو مؤسسات، وليس منحصراً فقط ضمن حدود القطاع العام. إضافةً إلى التحديات السابقة، فإن نموذج الحكومة المنفتحة تستلزم التحول من الهيكل الهرمي والمركزي إلى الهيكل الشبكي واللامركزي. بمعنى أن الجهات الحكومية تتجه لتكوين ثقافة تنظيمية ترحب بالتشارك والتعاون في الأصول الحكومية، سواء المال والبيانات والمعلومات أو غيرها، بالإضافة إلى تفويض صلاحيات اتخاذ القرار مع الجهات المشاركة. فينتقل دور القطاع الحكومي من كونه الموجه والمخطط والمنفذ الوحيد للسياسات العامة إلى أن يكون الممكن والمنظم للمشاركة والتعاون المجتمعي ومشارك في التنفيذ.
ومن أبرز التحديات الأزلية في مجال الحكومات الالكترونية هو الأمية الرقمية (Digital Literacy) والذي يُعرف بأنه مدى قابلية الأشخاص لاستخدام التقنيات الرقمية. يستصغر البعض هذا المفهوم بحجة اتساع رقعة جيل الألفية في السعودية–كما في غيرها–وقدرتهم على مواكبة التقدم الإلكتروني، ويغفل عن حقيقة تسارع التطور التكنلوجي واختلاف أنماطها التي من تبعتها خلق التفاوت بين أفراد المجتمع في القدرة على استخدام التقنيات الحديثة. وأيضاً من أبرز التحديات هي الطبقية الرقمية (Digital divide) التي تُعرف بمدى تساوي قدرات أفراد المجتمع في الوصول إلى الخدمات الحكومية الرقمية والاستفادة منها؛ والتي من أبرز أسبابها يكمن في مدي مساواة البنية التحتية لموجات النطاق العريض (Broadband) ومدى اتساع نقاط التغطية وسرعة تحميل ورفع البيانات وتكلفة أسعار خدمات الإنترنت. جميع هذه التحديات كفيلة بزعزعة الخطط المرسومة والجهود المبذولة في الارتقاء بالاقتصاد الرقمي في المملكة.


 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة