أَخِرُ الدَوَاءِ الكَيّ!

​​

يكاد أن لا تخلوا أسرة في العالم وإن اختلفت ألوان أو ألسنة أو ديانات أفرادها من وجود اختلافات في الآراء المطروحة حول مسألةٍ ما. وتُعتبر هذه الاختلافات سنة كونية من سنن الله تعالى في البشر، والتي ستظلُّ باقيةً ما داموا يتمتعون بإرادةٍ حرة، وإدراكٍ متفاوت. وهذه الاختلافات لا تُفسِد للود قضية كما يُردِّدُها العوام، ويتفق عليها أولو الألباب، وهي تُعدُّ ظاهرة صحية يحتاج إليها المجتمع. كما أنَّه قد تكون هذه الاختلافات غير مرغوبٌ فيها عندما تُفضي إلى توليد نزاعات تكون إحدى نتائجها الوخيمة هضم حق مادي أو معنوي لعضو أو أكثر داخل الأسرة بقرار من رب الأسرة سواءً بحسن أو سوء نية. وبناءً عليه، فالذي تمت ممارسة عليه ذلك الهضم العائلي يُلقى به إكراهاً لا اختياراً بين حُفرتين من نارٍ ذات لهب كلما اقترب من إحداهما لُسع، فإما أن يُذْعِن إلى ما توصلت إليه كيان الأسرة من قرارٍ ويتنازل عن حقه المشروع الذي يؤمن باستحقاقه، أو يُحاول بشتى الحِيَل المشروعة لحل النزاع بشكل ودي وإطفاء شرارة النار قبل وصول ذرّاتها المتطايرة إلى أركان البيت من خلال التظلُّم على هذا القرار إلى رب الأسرة المسؤول؛ بهدف الحفاظ على سُمعة الأسرة وسلسلتها المُتّصلة. وفي أسوء الحالات، إن لم ينتج عن هذا التظلُّم نفعاً أو إصلاحاً يعود على المُتظلم، فإنه في هذه الحالة ليس أمامه خياراً سوى اللجوء إلى القضاء؛ من أجل حماية حقه من الهَدْرِ والضياع؛ استرشاداً بما قالتهُ العرب: (آخر الدواء الكي).

والمتأمل لهذا المثل يجد أن المُنظِّم السعودي أخذ به بأسلوبٍ غير مباشر حينما أراد حل النزاعات الناشئة بين الموظف العام والجهة الحكومية التابع لها باعتبارها شبيهةً بدرجةٍ كبيرة بمنظومة الأسرة. ولهذا السبب يتعيَّن على الموظف الحكومي إذا ما أراد إلغاء قراراً إدارياً والأثار السلبية المترتبة عليه بحكمٍ قضائي، أياً كان مضمون ذلك القرار سواءً يتعلق بالتعيين على مرتبة أقل أو لا تُطابق مؤهله، أو النقل التأديبي من مكان إلى أخر، أو التكليف الغير مشروع والمخالف للنظام، أو عدم الترقية المُستحقة، أو ترقية من هو أقلُّ منه، أو الفصل، أو تقييم الأداء، وغيرها من الحقوق المرتبطة بالوظيفة العامة أن يسارع في رفع التظلُّم الإداري عن طريق منصة مسار التابعة لوزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية خلال الستين يوماً من تاريخ العلم بالقرار. وبعد رفع التظلم إلكترونياً على المنصة سيواجه الموظف حينئذٍ بثلاثة افتراضيات في غاية الأهمية والتأثير ينبغي الانتباه لها، ومعرفة كيفية التعامل معها؛ لأن التفريط في أيٍ من منها يجعل الدائرة القضائية فيما بعد لو تم رفع الدعوى أمامها الحُكم بعدم قبولها؛ لعدم التزام الموظف بالإجراءات الشكلية والمدد النظامية ولو كان لديه ملء الأرض أدلةً وإثباتات على صدق دعواه، وتتمثل هذه الافتراضات في الاتي:​

الافتراض الأول- قبول التظلُّم:

تقوم الإدارة بقبول التظلُّم عن طريق المنصة، والقيام بالرد عليه خلال الستين يوماً من تاريخ إرسال الطلب؛ مما يعني أنها تُبدي رغبتها بتعديل القرار أو إلغاءه. فإن لم تقم بتعديل القرار أو إلغاءه خلال الستين يوماً من تاريخ ردها بالقبول ينبغي على الموظف إذا ما أراد إلغاء هذا القرار الإداري عن طريق القضاء أن يرفع دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية عن طريق نظام مُعين خلال الستين يوماً التالية لانتهاء مهلة تعديل القرار أو إلغاءه المُشار إليها.


الافتراض الثاني- رفض التظلُّم:

تقوم الإدارة برفض التظلُّم عن طريق المنصة، والقيام بالرد عليه خلال الستين يوماً من تاريخ إرسال الطلب؛ مما يعني أنها لا تُبدي رغبتها بتعديل القرار أو إلغاءه. وفي هذه الافتراضية ينبغي على الموظف إذا ما أراد إلغاء هذا القرار الإداري عن طريق القضاء أن يرفع دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية عن طريق نظام مُعين خلال الستين يوماً من تاريخ رفض الجهة الإدارية ذلك التظلم.


الافتراض الثالث والأخير- السكوت عن الرد:

تقوم الإدارة بالامتناع عن الرد في طلب المُتظلّم، وعدم إبداء رغبتها صراحةً سواءً برفض التظلم أو قبوله خلال الستين يوماً من تاريخ إرسال الطلب. ويعدُّ النظام ذلك التصرف بمثابة الرفض الضمني. وفي هذه الافتراضية ينبغي على الموظف إذا ما أراد إلغاء هذا القرار الإداري عن طريق القضاء أن يرفع دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية عن طريق نظام مُعين خلال الستين يوماً التالية من تاريخ انتهاء تلك المهلة الأولى.


خلاصة القول، ينبغي أن يُدرك الموظف أهمية التظلم الإداري وافتراضاته الثلاث، وألا يلجأ إليه إلا بعد قياس دقيق للمصلحة من المفسدة المُحتملة، واستشارة ذوي الرأي والخبرة في كل قضيةٍ على حِده؛ لأنه مع الأسف الشديد توجد بعض الإدارات في الجهات الحكومية التي تُقيم العداوة على من يُطالب فقط بتصحيح قراراً إدارياً عن طريق التظلُّم الإداري، أو تؤخِّر تلك العداوة إلى أن تُرفع القضية عليها. ثم حينئذٍ تَقْعُدْ لذلك الموظف كُلَّ مَرْصَدْ؛ بهدف الانتقام منهُ مُستغلةً بذلك النظام واللوائح. وختاماً يُمكن طرح هذا التساؤل (هل جميع القرارات الإدارية المؤثرة في حقوق الموظفين ومراكزهم تسري عليها تلك المدد النظامية أم هنالك استثناءات؟).

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة