التحول الرقمي والمركزية في الإدارة

​​

هناك أسلوبان تنظيميان رئيسيان لتنظيم عملية الإدارة في القطاعات الحكومية، وهما: أسلوب المركزية Centralization، وأسلوب اللامركزية Decentralization.  وتعني المركزية: تركيز الإدارة في جهة رسمية معينة، بينما تعني اللامركزية: توزيع الصلاحيات على جهات متعددة.

 ومع ذلك لا يوجد مركزية مطلقة، وفي المقابل لا يوجد اللامركزية بشكل كامل؛ إذ أن المنظمات والأجهزة الحكومية المختلفة في الغالب تجمع ما بين هذين الأسلوبين.

والمركزية واللامركزية أسلوبان متقابلان يقعان على طرفي نقيض، وتتدرج أساليب الإدارة في المنظمات، والهيئات الحكومية المختلفة على خط مستقيم يبدأ من المركزية وينتهي عند اللامركزية؛ حيث يوجد أساليب أخرى وسيطة على هذ الخط، ولا شك أن لهذه الأساليب أهميتها القصوى في التنظيم الإداري.

وفي هذا المقال نبحث في تأثير التحول الرقمي على تبني مفهومي المركزية واللامركزية على مستوى المنظمات والقطاعات الحكومية في بُعْدِها الإداري (فقط) في ظِلِّ التقدم التقني الهائل في العصر الحديث، وقدرة عمليات التحول الرقمي على تحييد تأثير كافة المزايا والعيوب لكلي الأسلوبين على تقديم الخدمات.

 ففي الماضي القريب كانت اللامركزية النموذج المفضل لدى الكتاب والباحثين والمفكرين في مجال الإدارة لما لها من مزايا عديدة؛ حيث يؤدي تطبيق اللامركزية إلى سرعة تقديم الخدمات، وتقصير دورة الإجراءات، ومنح مساحة للهيئات الإقليمية وفروع الأجهزة الحكومية لكي تدير شؤونها بنفسها بعيدًا عن سيطرة الهيئات المركزية نظرًا لتطبيق مبدأ التفويض اللازم لتحقيق اللامركزية. وكان ذلك أمرًا منطقيًّا ومرغوب و(صحيح) حتى تدخلت التقنية بشكل قوي جدًّا وغيرت من هذه المفاهيم وقلبتها نتائجها رأسًا على عَقِب، فأصبح بالإمكان تحقيق كافة مزايا اللامركزية الإدارية والاستفادة منها رغم أن الجهة الحكومية تُطَبِّق أسلوب المركزية؛ حيث تُنَفَّذ كثيرًا من العمليات من قبل الجهات المركزية، ويُتَّخَذ العديد من القرارات في المراكز الرئيسية دون الحاجة للفروع. 

وهذا يعني عمليًا تطبيق أسلوب المركزية مع تحييدٍ تامٍ لعيوب النظام المركزي، حيث أن الإجراء يُنَفَّذ الكترونيًا، والخدمة تُقَدَّم سريعًا من المركز الرئيس للجهة الحكومية، بل وأصبحت المركزية تُحَقِّق مزايا إضافية مثل ضمان للجودة، والعدالة في تقديم الخدمات لاعتماد معايير موحَّدَة على مستوى الفروع في مختلف المناطق، كما أن التوجه للمركزية في ظل التحول الرقمي ينتج عنها توفيراً وترشيدًا كبيرين في الموارد المالية والبشرية نتيجة عدم الحاجة لبعض الوحدات الإدارية في الفروع, وربما نجد في الفترة القادمة إلغاء لكثير من الوحدات المساندة في الفروع التي بات دورها محدودًا وضئيلًا في التحول الرقمي مثل الموارد البشرية، والموارد المالية، والقانونية، والتقنية،  فيكتفى بإدارة عامة واحدة مركزية في الجهة الحكومية للتقنية، وأخرى مماثلة للموارد البشرية، وثالثة للشؤون المالية.

ونرى أن الدور القادم لتأثير التقنية سيمتد ليصل إلى الوحدات التنفيذية أيضًا، مما يجعل الهياكل التنظيمية في الفروع أكثر رشاقة، وأصغر حجمًا، وأقل دورًا، وأوفر تكلفة.

وفي الختام؛ ورغم الفوائد الكبيرة التي ستعود على الجهات الحكومية من تطبيق المركزية، والاستفادة من مخرجات التحول الرقمي إلى أن أسلوب اللامركزية يظل له أهميته في جوانب أخرى.


 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة