الإدارة العامة الجديدة

​​

في السبعينات الميلادية من القرن الماضي، تنبأ مجموعة من المفكرين والعلماء، من أمثال "وارن بنس" و"فردريك ثير" وآخرين بتراجع البيروقراطية واندثارها، ثم اختفائها نهائيًا، لتظهر أنماط تنظيمية جديدة من المنظمات تلائم روح العصر وتواكب تطوره؛ إذ لم تعد المنظمات الحكومية التقليدية قادرة على تحقيق أهدافها في عصر يتسم بالسرعة والديناميكية.  مما استدعى الجهات المسئولة في هذه المنظمات للبحث-بشكل جاد وحقيقي-عن مخرج من معضلة التضخم في حجم هذه البيروقراطيات.  وفي محاولة لإعادة إصلاح هذه المنظمات؛ ظهرت توجهات جديدة تدعو إلى تبني نماذج تنموية غير تقليدية تمكِّن هذه الأجهزة من تحقيق احتياجات وتطلعات المواطنين المتزايدة كمًا ونوعًا، ويأتي في مقدمة هذه الإصلاحات، تطبيق مفهوم "الإدارة العامة الجديدة، كأحد التوجهات الرئيسية لإصلاح الإدارة العامة. ولعل من أبرز الكُتاب والمفكرين الذين تناولوا هذا المفهوم David Osborne and Ted Gaebler في كتابهما: (Reinventing Government ,1993)، وكذلك David Osborne and Peter Plastrik في كتابهما: (Banishing Bureaucracy: The Five Strategies for Reinventing Government 2nd Edition,2005).
والإدارة العامة الجديدة مفهوم حديث يحرر المنظمات من قيودها، ويمكِّنها من خدمة المستفيدين بدرجة عالية من الجودة والسرعة. ويعتمد على التخلص من النماذج البيروقراطية التقليدية، وإعادة ابتكار الحكومة Re-inventing Government، من خلال منهجيات عمل جديدة لتطوير وإعادة صياغة أساليب إدارة المنظمات الحكومية وعملياتها وثقافتها التنظيمية. بالإضافة إلى التوجه نحو الهياكل العضوية المرنة، وتحول الحكومة من دَور الإشراف والتنفيذ المباشر للخدمات إلى دَور الرعاية والمتابعة، وتبني شراكة حقيقية مع المواطن في صناعة القرار الحكومي ومد جسور قوية من التواصل بين الحكومة والمواطن، وتحقيق ما يسمى بالاندماج الاجتماعي أو المشاركة المجتمعية التي تعني أن يكون للمواطنين دور حقيقي في أي عمليات صياغة أو تمرير أو تنفيذ للسياسات العامة، والتحول من حالة المشاركة بالآراء إلى ما يسمى "سلطة المواطن"، تلك الحالة التي يصبح فيها المواطن شريكًا حقيقيًا في صناعة السياسات والقرارات الحكومية.
ووفقًا لهذا التوجه يتم بناء الإدارة الحكومية الفاعلة اعتمادًا على عدة مرتكزات أساسية أهمها: صياغة برامج السياسة العامة بناءً على المعالجة الاستباقية للمشكلات أكثر من التركيز على الهياكل الرسمية للجهات المكلفة بحلها، وهذا يتطلب أن تضمن المنظمات الحكومية تقديم الخدمة بسهولة ويسر من خلال إعادة بناء نُظُم تقديم الخدمات وفقًا لاحتياجات المستفيد بعيدًا عن تعقيدات النموذج البيروقراطي وآلياته، ثم يأتي مرتكز المساءلة السياسية التي تركز على النتائج النهائية أكثر من العمليات، ثم قيادة سياسية تعمل أكثر عن طريق الإجراءات التحفيزية للمشاركة بدلاً من اتخاذ القرارات فقط. وهي لهذا تحتاج إلى أدوات ابتكارية ومنهجيات توسع من أدوارها التقليدية وتتحلى بالشجاعة في تحمل المخاطر. وتظل المواطَنة المرتكز الأخير وأبرز المرتكزات وأهمها في عهد الإدارة العامة الجديدة؛ حيث يتناول هذا المرتكز دوراً جديداً للمواطنين في شراكة حقيقية مع الحكومة في صناعة القرارات والسياسات، وتقييم الأداء الحكومي؛ من أجل الارتقاء بالخدمات، وتحقيق الصالح العام.
والذي يشهد واقع الأجهزة الحكومية اليوم يجد أنها قطعت شوطًا جيدًا في تحقيق التحول المؤسسي المطلوب وفق أهداف رؤية 2030، وعلى وجه الخصوص الهدف الإستراتيجي الخاص بـتحسين فاعلية الحكومة، والبرامج الأخرى المكملة له، مثل برنامج التحول الوطني 2020، ومبادرات المدن الذكية، وإنشاء هيئة الحكومة الرقمية. ولعله من المناسب هنا الإشارة إلى النجاح الكبير لمعهد الإدارة العامة في تنظيم مؤتمر الابتكار ومستقبل العمل الحكومي تحت رعاية وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية. ونتطلع إلى توظيف مخرجات هذا المؤتمر فيما يحقق إعادة ابتكار الحكومة، وصياغة مستقبل العمل الحكومي وفقًا لأهداف رؤية المملكة وتطلعاتها، وبما يتوافق مع التوجهات العالمية في إدارة القطاع العام.


 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة