هناك مَن يتشبث بالوظيفة رغم تدني المردود المادي؛ والسبب حبه للثقافة السائدة فيها. هذه الثقافة هي عمود الخيمة في علاقات الناس في بيئات العمل. فهناك ثقافة تحب التفاصيل، وأخرى محفوفة يومياتها بالمخاطر، وأخرى حازمة، أو متراخية، أو متمحورة حول أفراد، وهي عكس ثقافة روح الفريق الواحد.
فمهما بذل المرء من جهد في فهم وانتقاء أفضل منظمة يعمل فيها، تبقى أمامه عقبة اجتياز اختبار "الثقافة الخفية" التي ما إن يُكشف عنها النقاب حتى تتضح له الصورة. وما يناسبني قد لا يناسب مَن اقترح عليّ بإلحاح العمل في هذه المؤسسة أو تلك.
هناك بيئات تتصيد الزلات، حتى إن أحد المسؤولين أخبرني بأنهم في هذه المنظمة إذا لم يسمعوا نقداً فهذا بحد ذاته تقدير؛ لأن الأصل النقد والثناء يستشفونهما من ثنايا السكوت، وهو علامة الرضا على ما يبدو.
وهناك ثقافة يغلب عليها الاستقرار وهي مريحة جداً للبعض؛ لأن القرارات في مجملها تراعي الحفاظ على الوضع الراهن. ولذلك كانت هذه الثقافة أكثر مقاومة للتغيير أو مجرد فكرة الاندماج مع منظمة أخرى. كذلك هناك جهات يغلب عليها عدم محاسبة المخطئ مهما عمل. في هذه يترعرع الفساد وهي أدعى إلى التسيب والتراخي، وهي طاردة للمتفانين في العمل؛ لأن أحداً لن يقدرهم. وهناك أيضاً ثقافات تعشق فرق العمل وتخشى ارتباط العمل بفرد واحد قد يتحكم بهم أو قد تهدد مصيرهم استقالته المفاجئة، وهذا هو التوجه الحديث في العمل الإداري الذي لا يسمح لفرد واحد بتولي زمام العمل بمفرده. حتى وإن كان هو الأفضل، تلزمه الأنظمة بأن يرسل نسخة من كل مراسلاته إلى زميل آخر؛ حتى يكون على علم بمجريات الأمور. وهذا هو تعريف العمل المؤسسي الحديث.
من الثقافات المريحة للبعض تلك التي تركز على النتائج. لا يهم في أي دقيقة بصمت وفي أي ثانية كانت لحظة انصرافك، المهم النتيجة. فما أكثر الملتزمين بساعات العمل، لكنهم لا ينتجون ربع ما يقدمه زملاؤهم الذين يضطرون للتأخر عن العمل لاعتبارات خاصة. هذه ثقافة outcome orientation وهي صحية؛ لأن الرؤية فيها واضحة: النتائج هي الشغل الشاغل، منها الصحافة والعمل الإعلامي. وهناك منظمات تتمحور حول الأفراد، فإذا ما غاب "حكيم زمانه" أو "الضليع"؛ توقف العمل. ويا لها من شهادة سلبية بحق كل القياديين الذين لم يوجِدوا بيئة عمل جماعية مستدامة.
فالبشر يأتون ويذهبون لكن النظام الجماعي المؤسسي هو ما يبقى شاهداً على العمل المنهجي المنظم الذي يشار إليه بالبنان.