كيف تكون الجهة الحكومية الخصم والحكم؟!

​​​

تُرتكب عادةً مخالفات إدارية أو ما يُطلق عليها في أوساط الفقه القانوني الإداري (جرائم إدارية) من أصغر الصغائر إلى أكبر الكبائر من جانب الموظف الحكومي. وقد تكون هذه المخالفات قد وقعت داخل أو خارج أروقة مقر العمل الحكومي، سواءً أثناء ساعات العمل أو خارجه؛ بسبب مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالعمل أو غير ذلك. وبما أن الغالبية العظمى من تلك المخالفات تقوم الجهة الحكومية التابع لها الموظف المنسوبة إليه التُهمة بمباشرتها متى ما اقتنعت باحتمالية وقوعها؛ فإن طلب التحقيق مع الموظف المتهم يصدر من إدارة المتابعة أو الإدارة القانونية-بحسب الأحوال-إلى صاحب الصلاحية الذي يصدر بدوره قرارًا بتشكيل لجنة وبإحالة الموظف المتهم إلى التحقيق واستدعائه إلى طاولة الاتهام؛ للتأكُّد ما إذا كان الموظف المتهم بريئاً من التهمة-وهو الأصل الذي لا يجب على الجهة الإدارية الانفكاكُ عنه أو افتراض ما هو دونه-أو مُذنباً، بحسب ما تتوافر من أدلة أو قرائن محيطة بالقضية. وفي الافتراضية الأخيرة(أن يكون مذنبًا) تقوم اللجنة بعد إغلاق محضر التحقيق بكتابة النتائج والتوصيات إلى صاحب الصلاحية بإيقاع إحدى العقوبات الواردة على سبيل الحصر في نظام تأديب الموظفين، بمعنى أنه لا يجوز للجهة الحكومية إيقاع أية عقوبة خارج نطاق هذا النظام، وإلا كان قرارها مشوباً بعيب من عيوب أركان القرار الإداري، ومُعرَّضاً للإلغاء؛ متى ما تمت المطالبة بذلك قضاءً، مع العلم أنه صدر مؤخراً نظام جديد المسمى بنظام الانضباط الوظيفي، والذي سيدخل حيّز التنفيذ بمضي 180 يوماً من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية ليأخذ مكانه مع النظام السابق ذكره.

 

ويتضح جلياً بعد استعراض هذه الإجراءات أن الجهة الحكومية التابع لها الموظف من حيث الأصل هي المختصة بالتحقيق مع موظّفيها في مُعظم المخالفات المرصودة. ومن هنا في الحقيقة تظهر الإشكالية لاكتسابها صفتين، صفة الخصم والحكم معاً. وهذه الإشكالية مازالت منذ أمدٍ بعيد تلحُّ على مسامعنا، وهي المحرك الرئيسِ الذي دفعنا لكتابة هذا المقال بتجرُّدٍ تام عن المُسلّمات الإجرائية؛ بهدف الوصول إلى أجدر الممارسات الإدارية دون حرمان الموظف المتهم-بقصد أو بغير قصد-من الحد الأدنى من الحقوق والضمانات المقرّرة شرعاً ونظاماً. ولكي يكون المقال مُلامساً للثقوب الإجرائية برفقٍ وعناية؛ يتعيّن علينا إيراد مثال واقعي عن مخالفة إدارية تقع باستمرار في أغلب الجهات الحكومية، وهي إحالة الموظف المتهم بسبب التأخير أو الغياب المستمر إلى لجنة التحقيق، والتي يكون دائماً كل أعضائها زملاء للموظف المتهم، والذين يعملون معه في ذات الجهة. وقد يكون أحد هؤلاء المشاركين في عضوية اللجنة صاحب عداوة أو مودّة مع الموظف المتهم كمثل الذي اطلعنا عليه في بعض محاضر التحقيق من وجود الرئيس المباشر للموظف المتهم في عضوية لجنة التحقيق الذي سبق وأن حصل بينهم مشاجرة لفظية وصدور توجيه بالخصم من راتبه؛ بسبب التأخير المتواصل والغياب عن العمل.

 

 والحقيقة الظاهرة من هذا المثال الواقعي وغيره أن مجرّد توافر صفة الزمالة فيمن يتولى التحقيق مع زميل آخر له من داخل الجهة يؤثر بلا ريب في نزاهة وسلامة التحقيق، وإن افترضنا جدلاً عدالة العقوبة الموصى بإيقاعها على الموظف المتهم؛ نظراً لأن من أبجديات العدالة المتفق عليها فقهاً وقضاءً، ولا سيما عقلاً ونقلاً عدم الجمع بين صفتي الخصم والحكم فيمن يتولّى نظر القضية أو التحقيق. ولذلك قد قال الأوّلون وردّدها بعد ذلك الآخرون مقولة شعبية مشهورة: "إذا كان خصمك القاضي، فمن تُقاضي؟!". بالإضافة إلى أنّ صفة الخصومة كذلك متحققة الوقوع لا محالة؛ بمجرد تشكيل لجنة للتحقيق مع الموظف المتهم من صاحب الصلاحية داخل الجهة؛ لأن المُكتسبين لعضويتها-بداهةً-لا يعدوا أن يكونوا ممثلين لمصلحة الجهة بالدرجة الأولى. وفي سبيل قياس مدى الأثر السلبي في ذلك بدقة عملية، فقد سألنا بعض مديري الموارد البشرية والإدارات القانونية بالجهات الحكومية عن انطباعاتهم بشأن إجراءات التحقيق داخل الجهة التابع لها الموظف، فإننا لا نكون مبالغين إن قلنا إنهم أجمعوا على رأيٍ واحدٍ أن ذلك يضعهم في دائرة الضيق والحرج مع زملاءهم المحقَّق معهم.

 

 ولتفادي شبيه تلك المواقف المحرجة أو حرمان الموظف المتهم من أدنى حقوقه وضماناته؛ فإننا نوصي مَن بأيديهم مفاتيح الحَل والعقْد بأن يجدوا حلاً لمثل هذه الإشكاليات الواقعية، على سبيل المثال إجراء التحقيق من جهة أو لجنة محايدة خارج الجهة التابع لها الموظف المتهم، أو دمج جميع اختصاصات النظر في مخالفات موظفي الحكومة الإدارية والمالية لهيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة)، أو أخيراً إنشاء لجنة تحقيق داخل كل جهة حكومية مستقلة عن الجهة ذاتها، بحيث يكون المسؤول عن تعيينهم وشؤونهم الوظيفية والمالية من ترقية وتأديب ونحوه مجلس خاص، كالمجلس الأعلى للقضاء أو القضاء الإداري المختص بشؤون القضاة الوظيفية وليس رئيس الجهة؛ حتى يتمتع المحققون بالاستقلالية التامة إدارياً ومالياً من جهة، ونضمن حيادهم وعدم الضغط عليهم من جهةٍ أخرى.


 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة