التقنين في القضاء السعودي وتطلُّعات المستقبل

​​​​

شهدت المملكة العربية السعودية في السنوات الأخيرة تطوُّرات عديدة في جميع المجالات، ولا سيما في مجال القضاء؛ لإخراجه من حيِّز الجمود والثبات، إلى حيِّز النمو والبناء؛ بهدف تقليص الفجوات والاجتهادات في تفاوت الأحكام بين القُضاة للإسراع في عملية حسم النزاعات. في سبيل ذلك اتجهت الدولة نحو التحوُّل ممّا يُسمّى (بالقضاء الشخصي) الذي يُعطي القاضي نطاقًا واسعًا في إعمال الاجتهاد في قضية ما، إلى ما يُسمّي (بالقضاء المؤسسي) الذي يرسم حدودًا واضحةً ودقيقةً لتحرُّكات القاضي، عبر سن تشريعات وقوانين حديثة على ضوء الفقه الإسلامي، وجعلها في قوالب قانونية جاهزة على هيئة مواد مكتوبة ومرقَّمة بشكل تسلسلي حسب الموضوعات؛ مما يُسهم في زيادة نسبة تنبّؤات المتخصصين من محامين، أو باحثين، أو حتى أطراف النزاع في معرفة ما قد تؤول إليه نتائج القضية قبل عرضها على المحكمة. وبالتالي يقتصر دور القاضي فقط على إيجاد الوصف الشرعي والقانوني المُلائم وتطبيقه على الحالة المعروضة أمامه تحت سقف أحكام المواد المكتوبة، بدلاً من الاجتهاد في الرأي الذي يتباين إلى حدٍ كبير من قاضٍ إلى آخر في قضيةٍ متماثلة؛ مما قد يؤثر سلبًا في ثقة الناس حول مصداقية الجهاز القضائي، فعلى سبيل المثال تفاوت الأحكام في حال اتفاق المتعاقدين على حلول كامل الأقساط للوفاء بها عند تأخير المدين عن سداد أي من هذه الأقساط الآجلة المتفق عليها كشرطٍ جزائي. فبعض القضاة يحكم برد الدعوى، وحينئذٍ باقي الأقساط تُطلب في ميعاد استحقاقها، وبناءً عليه لا يرون صحة ذلك الشرط ولزوم تطبيقه. وعلى النقيض الآخر يرى البعض صحة هذا الشرط وإمكانية الحكم به؛ بحجة أن المسلمين على شروطهم، فضلاً عن أن الشرط يُحقِّق مصلحة الدائن وفي الوقت ذاته يحثُّ المدين على دفع الأقساط في المواعيد المحددة.  

اعتبارات مهمة

ولذلك يستهدف القضاء المؤسسي في رحلته الشاقة نحو تقنين الفقه الإسلامي في إطار مواد قانونية اعتماد أحد آراء فقهاء المذاهب الأربعة المعتبرة في مسألةٍ معينة، كالبيوع أو أحكام الأسرة، وجعلها الحاكم في النزاع المعروض، أو الأخذ بالقول الراجح بينهم بدلاً من تركها للاجتهاد الشخصي. كما يعتبر التقنين أسلوبًا عصريًا ووعاءً يُمكن تسخيره للدولة من خلال جعله أداة لضبط المعاملات وتسهيل الإجراءات. وحقيقةً أن التقنين لا يُحجٍم دور القاضي في الاجتهاد، فالسلطة التقديرية ما زالت تحت رهن تصرُّفه، ولكنها وفقاً لضوابط محدَّدة. ولا مانع من أن يكون باب الاجتهاد والفتاوى في ميدان العبادات متى تحققت شروطه؛ لكونه لا يمس إلا وضع السائل وعلاقته بربه عز وجل، أما في باب المعاملات وحقوق الناس والتزاماتهم لابد من تقليصها؛ درءاً للمفاسد.

 

وبما أن العالم في القرن الحالي يسعى بخطواتٍ حثيثة أسرع من القرون السابقة في مجال تطوير القضاء، فإنه من الضروري مواكبة تلك المستجدات وفقاً لأحكام الدين الإسلامي الذي من سماته الخالدة صلاحية تطبيقه في كل زمان ومكان. كما لا يجب علينا أن نقف حجر عثرة أمام هذا الامتداد الطبيعي للفقه الإسلامي من حيث تقنينه وتوجيه مساره. ونستشهد في ذلك بما قاله قاضي الاستئناف السابق فضيلة الشيخ الدكتور محمد الفايز: إن تقنين الفقه على مدار التاريخ الإسلامي مر بعدة مراحل مختلفة، كُل منها لها طابع خاص، من ذكر المسائل، إلى المطوَّلات، إلى الشروحات، إلى المختصرات، إلى الحواشي، ويعتقد أن التقنين اليوم هو التطوُّر الطبيعي للمرحلة الحالية التي فرضت نفسها وأخذت دورها في صياغة القوانين.

القضاء المؤسسي

مما سبق نستنتج أن القضاء المؤسسي يقوم على التقنين الذي أصبح ضرورةٌ اجتماعية لا غنى عنها، بل هي سنةٌ مهجورة؛ حيث إن النبي ﷺ كان أول من أمر بتقنين العلاقة بين المسلمين أنفسهم ومع غيرهم من الطوائف الدينية في المدينة تحت دستور مكتوب يُسمّى بـ (صحيفة المدينة) بعدما هاجر إليها. ولعل حاجتنا للتقنين في هذا العصر قد اشتدت وطأتها، وبرزت معالمها، والتي أشار إليها معالي الشيخ وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني في برنامج (في الصورة).

وحاجة المملكة للقضاء المؤسسي القائم على التقنين ظهرت نتيجةً إلى عدة أسباب منها:

  • ضعف الملكة الاجتهادية في استنباط الأحكام لدى بعض القضاة وتفاوتها الكبير من قاضٍ إلى آخر في القضية المتشابهة.
  • طول أمد التقاضي في بعض القضايا؛ لعدم وجود قوالب قانونية مكتوبة ومهيّأة للتطبيق؛ فيضطر القاضي إلى الرجوع إلى كتب الفقه المتناثرة، والأقوال المتباينة.
  • تقنين الفقه الإسلامي يحد كثيراً من اقتباس تشريعات الأنظمة الغربية التي قد تخرج في مجملها عن الإطار الشرعي.
  • سد الذرائع أمام كل من تسول له نفسه باستغلال باب الاجتهاد الواسع؛ لتحقيق مآرب غير نزيهة.

زيادة التنبٌّؤ بحكم القاضي، فضلاً عن زيادة الوعي القانوني لدى المجتمع والمستثمر الخارجي عند التعامل داخل حدود الدولة.​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة