"البيروقراطية" بريئة أم متهمة؟ أين الخلل

​​إن كانت البيروقراطية هي " الروتين الإداري" كما يقال، وهي طريقة لتنظيم مجموعة من الناس يعملون معاً من خلال تحديد أدوار الجميع ضمن تسلسل هرمي يتمتع بقيادة قوية، تحت الإشراف والرقابة. يبرز السؤال: أين الخلل إذن؟ ولماذا السمعة السيئة تصاحب مفردة "البيروقراطية"؟ وإلى أي مدى يقتل العمل الاداري روح المبادرة والتطوير لدى المنظمات والأفراد ويجعلهم يلقون باللوم على الأنظمة عند كل فشل؟ وهل معظم الأجهزة الحكومية تعمل بالنهج البيروقراطي الروتيني؟ وهل تفشى هذا النهج الإداري ليصل إلى ثقافة ونمط حياة في المجتمع؟

تهرب الموظفين من المسئولية

يحدد الألماني "ماكس فيبر"-أحد مؤسسي علم الاجتماع الحديث وإدارة المؤسسات العامة-موضوع البيروقراطية، على الرغم من أنه كان متمسكاً بهذا النهج للعمل الإداري البيروقراطي إلا أنه يعلم ويدرك سلبياته وانعكاساته على الأفراد من حيث تمسكهم الحرفي ببنود اللوائح، واكتفائهم بالحد الأدنى من الأداء المطلوب، وتولد ثقافة التهرب من اتخاذ القرارات والمسؤولية، وبحث البدائل المحدودة ضمن نص القوانين والانظمة.

وفي الإطار ذاته يرى البريطاني "هارولد لاسكي"-عالم الاجتماع البريطاني-أن البيروقراطية حالة تصل إليها المنظمة ويصعب تعديلها حتى لو تعارض ذلك مع مصالح حيوية لا تقبل المناقشة. فهي في تحليله تعكس حالة من حالات إساءة استعمال السلطة. وبالتالي فإن الموظفين لا يعنيهم تحقيق الإدارة أهدافها بل كل همهم التهرب من المسئولية والتقيد بنصوص اللوائح كما هي تماماً دون أي مرونة حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة.

تعارض القرارات الإدارية

وتوجه الكثير من الانتقادات مفادها أن طبيعة النظام البيروقراطي الروتيني، وغياب التنسيق تسبب في تعارض القرارات الإدارية مع قرارات جهات أخرى موازية؛ بسبب مركزية القرار في كل جهة، في الوقت الذي يفترض به أن تتكامل الجهود فيما بينها. هنا يطرح خبراء الإدارة وممارسوها المكننة والربط الآلي كبداية الطريق للقضاء على البيروقراطية بشكل نهائي في الإدارات العامة، وصولا إلى إنشاء ما يعرف بالحكومات الإلكترونية التي تؤمن الربط بين المنظمات العامة، وتنظم الإدارة فيها، وترفع جودة إنتاجيتها بشكل عام وتضمن إنهاء معاملات المراجعين بأقل جهد وأسرع وقت؛ الأمر الذي سيؤدي إلى القضاء على الترهل والفساد الإداري، ويسهم في تخفيف الضغط على المرافق والطرقات ويخفف زحمة السير التي تنتج عن التردد المستمر على الدوائر والوزارات، وتعارض القوانين الداخلية وغياب التنسيق.

تقتل الطموح وتعقد الأنظمة

وعليه فإن كانت البيروقراطية في العمل الإداري تقتل الطموح، وتضخم وتعقد الأنظمة والإجراءات ولا تقبل المرونة ولا نقل الأدوار والصلاحيات، وتطيل مسار العمليات الداخلية للمنظمة، وترفض فكرة تطبيق المعرفة الإدارية، وتلغي فكر الإنسان وأعطائه فرصة التغيير والتطوير والابتكار، وتربطه بما تنص عليه القوانين والإجراءات حرفياً، ولا تسمح له بتطوير وتحديث واقتراح طرقاً أخرى تناسب التطور المعرفي والتقني وتحقق أعلى درجات جودة الأداء والاستخدام الأمثل للموارد وضمان صقل وتطوير قدرات ومهارات القوى العاملة في هذه المنظمة.. فلماذا التمسك بالبيروقراطية إن كانت بهذا السوء؟

إصلاح ما افسدته البيروقراطية

ولإصلاح ما افسدته بيروقراطية الإدارة نشأ علم ما يسمى بإدارة التغيير أو الإدارة المعرفية، والتي يمكن أن تُعنى باستغلال الخبرات التراكمية السابقة لدى الافراد خلال عملهم الاداري بنهج بيروقراطي وتلخيص تجاربهم ومرئياتهم وإعطاءهم فرصة التوقف عن العمل حسب بنود النظام والانتقال إلى العمل على إصلاح وتطوير بنود النظام وإعادة تصميم العمليات، وتقليل مراحلها ومتطلباتها، وبضمان عدم الإخلال بالأهداف والمسارات الأساسية للعمل الإداري ثم العودة مرة أخرى إلى العمل حسب البنود المتطورة والحديثة. وبالرغم من أن بعض مدراء المنظمات "القدامى" تشبعوا بالبيروقراطية على مدى سنوات طويلة يصعب عليهم أن يقتنعوا بالنقلة النوعية التي ستنشأ من تفعيل ثقافة التغيير وانتهاء البيروقراطية.

التخلص من براثن البيروقراطية

وبحسب تقرير حديث للبنك الدولي صدر عام 2020م، فإن العالم يواجه حالياً تحديات لم يسبق لها مثيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهي ليست ناتجة عن جائحة كوفيد 19 فقط كما يظن البعض، فالحقيقة أن كورونا كان فقط القشة التي قصمت ظهر البعير، وإلا فإن بوادر الأزمة ظهرت مع ظهور الثورة الصناعية الرابعة، والذكاء الاصطناعي وذكاء الأعمال والرقمنة؛ ولذا فإن العديد من القطاعات الحكومية والخاصة في العالم تتجه حالياً إلى التخلص من ترهل العمل المكتبي "البيروقراطي"، وتقليص مستمر للعاملين في قطاعات الخدمات التقليدية التي يمكن أن تقوم بها التقنية وتفريغ أولئك العاملين لأداء مهام أكثر أهمية تضيف قيمة للاقتصاد، وأصبحت، وفقاً لتقرير البنك الدولي، برامج ذكاء الأعمال (BI ) التي تقوم باختصار مسافات طويلة من الجهد البشري التقليدي وأصبح استخدام الآلات الذكية أمراً مألوفاً بعد أن كان عملاً استثنائياً. وعلى اعتبار أن العمل الإداري الذي تتربع البيروقراطية على رأسه لا يذهب بالآمال والطموحات بعيداً، قامت مدينة "سيدني" في أستراليا، على سبيل المثال بتشغيل ميناء "بوتاني" بالكامل من خلال آلات ذكية تقوم بشحن الحاويات العملاقة وتفريغها، وتقوم "الروبوتات" بكثير من الأعمال التي يقوم بها الإنسان، وفي المناجم الأسترالية كذلك بدأ الاعتماد على الأجهزة الذاتية والآلات التي تقوم بنقل المواد الخام إلى شاحنات، وهي بدورها توصلها إلى قطارات الشحن في الموانئ من دون تدخل العامل البشري. وفي "نيروبي" تم إدخال نظام آلي لإدارة خدمة العملاء في مصلحة المياه والصرف الصحي، وهو نظام إلكتروني يتلقى شكاوى العملاء، ويساعد المديرين على إسناد حلها إلى موظف معين، ثم يتتبع خط سير مراحل الحل، ويخطر العميل بأحدث المستجدات عبر الرسائل الهاتفية القصيرة؛ ونتيجة لذلك زاد معدل حل المشاكل بمقدار الضعف، فيما تقلص الوقت الذي يستغرقه حل المشكلة بنسبة 90%.

البيروقراطية بريئة أم متهمة؟

ويرى الكثير من المتخصصين وخبراء الإدارة أنه في حال تم التخلص من آلية البيروقراطية ومفهومها سيتم القضاء على الفساد، وتعطيل المشاريع، وتخفيف الأعباء المالية، وتكاليف التشغيل عن كاهل المنظمات؛ مما يمكٍن من ادخار الميزانية إلى مشاريع نوعية واستثمارية، ويمكن للحكومة الإلكترونية زيادة قدرة المالية العامة للمنظمات، والحد من التسربات في الإنفاق، وتحسين الشفافية، وبعد أن كانت البيرقراطية في بداية الثورة الصناعية إحدى الحلول التي اعتمدوها في إدارة الإنتاج، وربما كانت الحل الوحيد لتسيير أمورهم الإدارية، تحولت في زمن ثورة الاتصالات والمعلومات إلى عبء ثقيل يجب التخلص منها وسبباً في تعطيله، بعد أن وفرت التقنية وثورة الاتصالات، والأنظمة الذكية كل عناصر وآليات تطوير الإدارة وتفعيل الإنتاج. وعلى الجانب الآخر من النقاش يرى آخرون أن البيروقراطية تنظيم اداري بريء من ممارسات الإداريين الخاطئة في المنظمات المختلفة، وأنها تنظيم جيد يوضح المسؤوليات والمهام، وأن السلبيات التي اعترتها من تعطيل للعمل الإداري وهدر للموارد؛ هي بسبب العقول القائمة على العمل الإداري بها، مؤكدين أن البيروقراطية، ضرورية، ولكن تتم إدارتها بطريقة سيئة.

 
 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة