رأس المال الاجتماعي في العمل الحكومي

أزمة كورونا يمكن اعتبارها بمثابة أشعة سينية (X-RAY)؛ فقد فحصت الكثير من المنظمات والمجتمعات وحتى الأفراد، وكشفت التفاصيل غير المرئية وبينت نقاط القوة ومكامن الضعف والخلل بكل وضوح. صحيح أن الأزمة تسببت في الكثير من الآلام والخسائر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي؛ إلا أنها في الوقت ذاته قد شرعت الأبواب أمام فرص ذهبية لتعزيز نقاط القوة ومعالجة مكامن الضعف، وأسهمت في تبني أفكار إبداعية وأسلوب عمل جديد. وكما قيل "تولد الفرص من رحم الأزمات". فأزمة كورونا جعلتنا نختبر أفكاراً كثيرة، كانت محل نقاش وجدل لزمن طويل؛ ظناً منا أنها غير مناسبة أو أنه لم يحن الوقت لها بعد، لنكتشف لاحقاً ومع الأزمة أنه-وبعكس ما كنا نتصور-قد حان وقت هذه الأفكار وقابليتها للتطبيق.

ولعلي أركز في مقالي هنا على فرص الإبداع الإداري في العمل الحكومي التي رأيناها جميعاً واضحة في عمل المنظومة الحكومية خلال جائحة كورونا. وهنا أتحدث تحديداً عما شهدناه من الانسجام الكبير والتكامل الملحوظ بين جميع الجهات الحكومية على مختلف تخصصاتها والخدمات التي تقدمها.

ويمكن للمتابع البسيط في وسائل التواصل الاجتماعي أن يشعر بهذه الوحدة الموضوعية، ويلمس ذلك الرابط القوي بين هذه الجهات في مراحل الأزمة المختلفة. ففي كل مرحلة من مراحلها تفاعلت الجهات بتناغم مثير للإعجاب، من بداية الأزمة، مروراً بمرحلة "كلنا مسؤول"، وحتى مرحلة "نعود بحذر". هذا التكامل الرائع لم يكن لولا وجود قدر كبير من إيمان تلك الجهات بأهمية توحيد الرؤية والجهود خلال تلك المراحل، والتي بلا شك تَميًز "مركز التواصل الحكومي" في صياغة رسالتها وبناء هويتها؛ حيث جعل من الأزمة فرصة للتأكيد على أهمية التكامل في العمل الحكومي.

فكلنا يعرف أن من ضمن أهداف الرؤية والتحول الوطني، تعزيز التكامل الحكومي وتوحيد الرسائل والأهداف؛ بهدف رسم صورة جميلة تشارك فيها جميع الجهات الحكومية بكل تناغم واحترافية.

هذا التفاعل المميز بين الجهات الحكومية في وسائل التواصل الاجتماعي خلال أزمة كورونا، شكًل بدوره ما يعرف في علم الاتصال والإعلام بمصطلح (رأس المال الاجتماعي) الذي يشير إلى قيمة الشبكات الاجتماعية ومدى استعداد أعضاء هذه الشبكات لخدمة بعضها بعضا. وفي أزمة كورونا تحديداً كان ترابط (رأس المال الاجتماعي) للجهات الحكومية في المملكة فاعلاً بشكل كبير؛ بحكم ما يجمعها من هدف ورؤية حكومية واضحة؛ حيث تكمن أهمية التعاون بين الجهات وقت الأزمات في تقوية قنوات التواصل فيما بينها. فهي تعد من أهم وسائل تماسك المنظمات، فضلاً عن أن كل الإبداعات والابتكارات تبدأ وتَنتُج ببناء نسيج اجتماعي وتنظيمي متماسك.

ولن يكون هناك أي فعالية لـ (رأس المال الاجتماعي) في تعزيز التكامل الحكومي؛ مالم يتواجد بين الجهات الحكومية المختلفة علاقات وتفاعلات إيجابية ضمن معايير وقيم وأهداف مشتركة يتعاونون ويسعون نحو تحقيقها من خلال تبادل المعلومات والخبرات والاستشارات والموارد فيما بينها. ولذا أصبح الاهتمام بـ (رأس المال الاجتماعي) في المنظمات المختلفة ضرورة حتمية وحاجة ملحة؛ تفرضها طبيعة التغيرات المتسارعة لتطوير قدرات هذه المنظمات على التكامل والعمل المشترك وخلق درجات عالية من الثقة المتبادلة.

​ومن أجل ذلك تدرك الجهات التي تسعى للنجاح في أعمالها أهمية العمل المشترك، وهو مَن سيذهب بها بعيداً لتحقيق أهدافها، وكما قيل (إذا أردت أن تذهب سريعاً؛ اذهب وحدك، وإذا أردت أن تذهب بعيداً؛ فاذهب مع فريق).

فعصر الشبكات الاجتماعية والفضاء الافتراضي ولًد أنماطاً جديدة من التفاعل والممارسات المختلفة، والتي إن استغلتها الجهات؛ ستساعدها بشكل كبير في التكامل الحكومي ضمن رؤية موحدة وهدف محدد. أما إن انعكفت على نفسها في غرفة ضيقة في الفضاء الافتراضي الشاسع وأغلقت عليها في (غرف الصدى Echo Chambers)-بحيث لا تسمع إلا صدى صوتها-فحتما ستستنزف أفكارها بعد فترة، وسيصعب عليها إنتاج أفكار إبداعية جديدة، بل ستجد نفسها فجأة تعمل لوحدها بأداء منخفض في وقت تستوعب فيه بقية الجهات المرحلة الجديدة، وبالعمل المشترك قطعوا مسافة بعيدة نحو هدف واحد ورؤية موحدة.​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة