مشاهير التواصل الاجتماعي والتحصين الإعلامي

​إن المتتبع للأحداث الجارية والمتسارعة عالمياً بسبب أزمة "كورونا" (COVID 19) وما أحدثته من متغيرات على جميع الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية؛ يدرك أن هذه الجائحة قد أفرزت ممارسات اتصالية متشابكة واستجابات مختلفة على مستوى الأفراد والمجتمعات جديرة بالتأمل.

فالسلوك الإنساني بشكل عام معقد ومتشابك؛ فلا يمكن فهمه بمجرد مراقبة طريقة استجابة الفرد للمتغيرات الخارجية وردود فعله تجاهها. حيث تتداخل عناصر كثيرة تسهم في إقناع الفرد وتوجيه سلوكه، كانتباهه، وإدراكه محيطه، وفهمه المعلومات الجديدة، وكذلك اتساق موقفه مع آراء المجتمع من حوله أو ما يسمى موقف الجماعة.

وكعادتي وأنا اقرأ الأخبار المحلية عن كورونا، وأتابع التحديثات المستمرة للوزارات المعنية بإدارة الأزمة، كالصحة، والداخلية، والتجارة، وغيرها، بالإضافة إلى متابعتي بعض ما يبثه مشاهير التواصل الاجتماعي عن؛ تبادر إلى ذهني نظرية فريدة من نوعها صاغها "ماكجواير" الخبير في علم النفس الاجتماعي، فهي لا تهتم أبداً بتغيير الاتجاهات والسلوكيات، بل على العكس هي تحاول أن تجعل هذه الاتجاهات والسلوكيات القائمة أكثر قدرة على المقاومة والتصدي لعوامل التغيير. فقد لفت "ماكجواير" إلى نظرية اللقاح أوالتحصين (Inoculation Theory) منذ أوائل عقد الستينات من القرن الماضي، والتي استلهمها من التلقيح والتحصين الطبي بالمضادات للأمراض المختلفة، والتي تُكسب الجسم مناعة، بعد أن يتعرف على الأجسام الدخيلة الضارة ويقاومها.

وكما هو التطعيم الطبي قد أثبت نجاحه ضد الأمراض؛ فإن "ماكجواير" يرى أنه بالإمكان استخدام التحصين الإعلامي ضد هجمات الرسائل الاتصالية التي قد يتعرض لها الفرد في بعض المواقف المهمة، وخاصة في أوقات الأزمات. فبالإضافة إلى معرفة الفرد بالآراء المؤيدة لقضية ما، تقوم فكرة التحصين الوقائي على تقديم الرأي الآخر للقضية المطروحة، حيث تُتاح للمتلقي فرصة التعرض والاطلاع على الآراء المعارضة. فهذا اللقاح المعرفي يرى "ماكجواير" أنه سيعزز مصداقية الرسائل، بل ويجعل المتلقي أكثر قدرةً على مجابهة الآراء المعارضة؛ فيما لو تعرض لها في المستقبل عن طريق قنوات وجهات أخرى. وفي ظل الظروف الراهنة مع جائحة "كورونا" والتي تشبه إلى حد كبير حالة حرب، ومع انتشار الشائعات بشكل كبير تصبح جهود تحصين المجتمع ضد هذه الشائعات مهمة ذات أولوية ملحة.

حيث تأخذ هذه الشائعات أشكالاً مختلفة من التهويل الذي قد يؤدي إلى فقدان الثقة في القدرة على مواجهة الفيروس، أو الشك في جدوى الإجراءات المتخذة لمواجهته. وقد تأخذ شكل التهوين المخل بتلك الجائحة وتقلل من خطر الفيروس وتصف الجهود لمواجهته بالمبالغ فيها.

والسؤال المهم الذي يُطرح هنا: كيف بمكن إدارة عملية تحصين المجتمع ضد الشائعات؟ والإجابة تكمن-حسب نظرية التحصين-في إستراتيجيتين، تتعلق أولاهما: بالشعور بالتهديد الذي يوفر دافعاً لتحصين الاتجاهات والآراء. والثانية هي إسترايتجية التفنيد التي تركز على النواحي المعرفية وتنشيط إقامة الحجج لدى المرء كحجج إقناعية دفاعية تسهم في تقوية الاتجاهات القائمة.

ولذلك نستطيع القول إن عملية التحصين ضد الشائعات قد حصلت في مجتمعنا إلى حد كبير؛ فالحملات الإعلامية التي تنفذها الوزارات المعنية، كالصحة، والداخلية، والتجارة، أو الجهات الحكومية الأخرى المشاركة في مواجهة فيروس "كورونا" وتداعياته قد صنعت نوعاً من التحصين المجتمعي؛ بسبب ما تحمله من حجج ومعلومات، خصوصاً وأن حسابات بعض مشاهير التواصل الاجتماعي–وبدون قصد-قد سرًعت من فاعلية التحصين؛ وذلك ببث مقاطع وسلوكيات ومعلومات تخالف حقائق طبية تخص فيروس "كورونا"، أو معلومات تحارية  تخص توفر السلع والمنتجات، بالإضافة إلى ممارستهم سلوكيات تخالف القرارات والتدابير الأمنية المتخذة كحظر التجول، وغيره من التدابير. فالجمهور-وبشكل ما-قد تعرض لعملية التحصين والتطعيم ضد الشائعات والسلوكيات الخاطئة، حتى وإن لم يدرك هؤلاء المشاهير أنهم قد أسهموا فيها. وأصبح المتلقي يميل إلى الاعتماد على المصادر الرسمية الموثوقة ومتابعة حسابات الجهات الحكومية مباشرة عبر تغطياتها المختلفة.​


 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة