الهندسة البشرية..إدارة التناغم بين الإنسان وبيئة العمل والآلات

​إتاحة بيئة العمل الملائمة للإنسان وتطويعها لحاجاته وطاقاته وقدراته من أهم روافد جودة الأداء والقدرات التنافسية للمؤسسات والجهات المختلفة، وهي قضية مهمة شغلت بال الكثيرين من المتخصصين والخبراء في المجال الإداري، كما أنها في الوقت ذاته تعد أمراً شائكاً؛ لتداخله مع مجالات وعلوم أخرى. وربما وجدت هذه المؤسسات والعلوم الإدارية ضالتها المنشودة في التوجه المعاصر الذي تنتهجه سائر المجتمعات المتقدمة، كاليابان، وأمريكا، وأوروبا، وغيرها، والذي هو عبارة عن "الهندسة البشرية" التي تهتم بمعالجة الكثير من مشكلات العمل، وتحقيق ملائمة العامل مع مواقع العمل وتنظيمه وأدواته وطريقة العمل وأبعاده المتعددة. وفي هذا التقرير نسلط الضوء على الهندسة البشرية؛ كي نتعرف عليها، ونرصد انعكاساتها على الأداء والموارد البشرية التي تعد وبحق أثمن ما تمتلكه المؤسسات كافة.

"الإرجونومية"

في البداية نبرز ما أوردته موسوعة "ويكيبديا" حول مفهوم الهندسة البشرية، أو "الإرجونوميكس" وما تعرف بـ"الإرجونومية"، أو هندسة العوامل البشرية، أو البيانات الحيوية، بأنه علم یھتم بتصمیم الأدوات والمعدات في بیئة العمل بحیث تتلاءم مع طبیعة الإنسان وحاجیاته.

وينظر لها آخرون باعتبارها تصمیم المنتجات والالات والملابس والأشیاء التى یتعامل معها البشر بما یحقق لهم الراحة والأمان، وقد اصطلح المصممون على استخدامه للتعبیر عن مجموعة من المعارف والمهارات المستخدمة في بناء وتصميم المنتجات بما یكفل لها الأداء الأمثل في خدمة الإنسان. ويرى البعض أنها تنصرف إلى بناء وتصميم وتوزيع الآلات في مكان العمل؛ بما یحقق كفاءة العمل ویوفر أعلى معدلات الأداء للعناصر البشریة، بل ولنظم العمل بأكملها. وكذلك يراها البعض دراسة التفاعل بین الإنسان والعمل، خاصة فیما یتعلق بتصميم الآلات والأدوات لتلائم الجسم البشرى ولتكفل أدائه لعمله بأقل جهد ولتوفر له أكبر قدر من الأمان والراحة في الاستخدام. وقد عبرت رابطة الإرجونوميكس العالمية IEA عن المغزى العميق لهذا التوجه المعاصر في علوم الإدارة من خلال شعار المجلة التي تصدرها وهو: "دراسة علمية للعوامل البشرية في علاقتها ببيئة العمل وتصميم المنتجات والمعدات".

العمل الدولية

وتوضح شيلان محمود من خلال استعراضها لمفهوم الهندسة البشرية عبر أطروحتها العلمية-التي سنستشهد بها في السطور القادمة-أن منظمة العمل الدولية قد تطرقت إلى أن الهندسة البشرية تتعلق بتطبيق العلوم الأحيائية (البيولوجية) والإنسانية ذات العلاقة مع العلوم التقنية؛ من أجل الوصول إلى أفضل تكيف متبادل بين الإنسان وعمله ونتائجه، وتقاس بمؤشرات الكفاءة والسلامة الصحية للإنسان، وهو مفهوم ينصب على كون الهندسة البشرية متعددة الجوانب؛ فهي حقل واسع من العلوم البيولوجية والإنسانية ويمكن الاستفادة منها في تطبيقات الهندسة البشرية الصناعية التي تهتم بتصميم المنتجات والعمليات والمعدات التي تستخدم في المجال الصناعي لتعظيم قدراتهم على استخدامها بشكل آمن ومريح من قِبَل الأفراد، ولتحسين المواءمة بين الأفراد وأنشطتهم والأعمال التي يقومون بها والأشياء التي يستخدمونها.

وربما يتضح الأساس التداخلي للهندسة البشرية مع علوم ومجالات أخرى، جميعها تهدف إلى إيجاد نوع من التناغم الإداري بين العمل والإنسان (الموارد البشرية)، وهو ما يبرزه نجم عبود في كتابه المعنون: "دراسة العمل والهندسة البشرية"، حيث يصنف هذه العلوم والمجالات المختلفة ذات العلاقة بالهندسة البشرية كالآتي:

  • العلوم الاجتماعية والنفسية: علم النفس الصناعي، وعلم الاجتماع الصناعي، وعلم الجمال الصناعي، وتشريع العمل، والأنثربولوجيا.
  • العلوم والمفاهيم الإدارية والتقنية: علوم الإدارة، وعلم وتقنية بناء المعدات، ودراسة العمل.
  • العلوم البيولوجية: البيولوجيا، وعلم السموم الصناعي، وعلم الفسلجة، وعلم صحة العمل.

تطور كبير

وبصفة عامة، توضح د.أميرة برهمين في مقال لها بموقع مجلة "الجودة الصحية" اكتشاف وبداية استخدام مصطلح ومفهوم الهندسة البشرية ومراحل تطور الاعتماد عليه، فتشير إلى أن اكتشاف علم الإرجونومیكس يرجع إلى الحضارة الإغريقية القديمة واستخدامها مبادئ هذا العلم في تصميم الأدوات والأعمال وحتى أماكن العمل، كما فى وصف "أبقراط" لكیفیة تنظیم غرفة الجراحة.

وكان العالم والفیلسوف البولندى "ووجیك جاسترزیبوسكى" أول من عرف هذا المفهوم الذي اسماه علم العمل فى عام 1857م. وفى القرن الـ 19 بدأ "فریدریك تایلور" البحث عن أسالیب لتحسین أداء العمال أثناء أدائهم أعمالاً معینة، فتمكن على سبیل المثال من مضاعفة حجم عمل عمال المناجم ثلاثة أضعاف بإنقاص متدرج فى حجم ووزن الفحم الذي ینقلونه حتى وصل إلى أسرع أداء ممكن. وتلى ذلك محاولات الزوجین "فرانك" و"لیلیان جیلبرث" اللذین وسعا من أسالب "تایلور" فى أوائل القرن الـ 20 وابتكرا ما یسمى بدراسة ما يسمى بالوقت والحركة، بتقلیل الخطوات وتمكنا من تقليل عدد حركات البنائين من ١٨ إلى ٤ حركات فقط؛ مما سمح لهم بزیادة إنتاجيتهم من ١٢٠ الى ٣٥٠ طوبة فى الساعة.

وتلفت برهمين إلى أن ما شهدته الحرب العالمیة الثانیة من تطور كبير في معدات وآلات الحرب؛ قد فرض على مشغلي هذه الآلات متطلبات عقلية مختلفة وقدرات مختلفة في إصدار القرار وقدرة أكبر على الانتباه والوعي وإدراك قیمة الحیز والزمن. كما تطلبت هذه الآلات تناسقاً أدق بين حركة كل من الید والعین وهو ما كان بمثابة مفتاح یحدد الفارق بین النجاح والفشل. وقد اكتشف العلماء في أثناء الحرب أن أفضل الطائرات التي یقودها أفضل الطیارین وأكثرهم تدريباً كانت عرضة للسقوط وبشكل متكرر بما یثیر القلق. وفى عام 1943م أثبت "ألفونس شابانیز" الملازم في الجيش الأمريكي أن ما یسمى بخطأ الطیار يمكن أن يقل كثيراً عندما تستخدم مقابض وأزرار ووسائل تحكم سهلة التمییز وموضوعة فى مكانها المنطقى حیث یتوقعها الطیار؛ وهو الأمر الذي ثبت جدواه والإقلال من سقوط الطائرات.

وفى العقود التى تلت الحرب العالمیة الثانیة بدأ الإرجونومیكس فى الازدهار والنمو والتنوع فى أدواته وتطبیقاته ومجالات عمله. وقد أتاح ما أسمیناه بعصر الفضاء للارجونومیكس موضوعات ومجالات بحث جدیدة، مثل العمل فى حالة انعدام الجاذبیة. بدأ العلماء یستكشفون إلى أى مدى یمكن للإنسان تحمل بیئة الفضاء؟ وما هو تأثیر هذه البیئة على العقل والجسم؟ كما فرض ظهور عصر المعلومات وظهور الكمبيوتر والتوسع في استخدامه في دراسة علاقة الإنسان بالكومبیوتر.

ودخل الإرجونومیكس أو ما یطلق علیه أحیاناً هندسة العوامل البشریة بقوة مجال تصمیم المنتجات وأماكن العمل واستمر حتى الآن نحو أكثر من ٦٠ عاماً. وتم قبوله واستخدامه والاعتراف بقیمته دولیاً كواحد من أهم مقومات إعداد طلاب التصمیم وتوفیر بیانات التصمیم فى بناء المنتجات والنظم الصناعیة، بل وتعد البیانات الإرجونومیة وقیاسات الجسم البشرى من أهم أدوات المصممین فى شتى

بقاع العالم.

مهمة جداً

وتجمل ديمة عوجان مرتكزات أهمية الهندسة البشرية، في أطروحتها العلمية التي تبحث أثرها على الطاقة التنظيمية، كالتالي:

  • تعالج قضايا الاستدامة والمحافظة عليها عن طريق إد راك الإنسان كمبدع ومشغل والعملاء

أيضا، وهنا نصل إلى دور مهندسي الهندسة البشرية في تصميم وتشغيل الأنظمة والعمليات بشكل فعال وسليم.

  • تزيد من مرونة المنظمة بحيث تكون لديها القدرة على مواجهة التحديات والتغيرات التي قد

تحدث أثناء أداء المهمة.

  • تسهم في الوصول إلى الطرق والأساليب الجديدة، مثل الإجراءات وبرامج التدريب، وتصميم تكنولوجيا حديثة ومتطورة من خلالها.
  • تعمل على الوقاية من الحوادث من خلال دراسة وتحليل أسباب وقوع الإصابات السابقة.

5 أهداف

ويحدد موقع "موسوعة" الأهداف الرئيسة من الهندسة البشرية كما يلي:

أولاً: التعرف على النماذج الجديدة وما يتضمنه من مفاتيح لسبل النجاح الإداري.

ثانياً: تزويد المشارك بمهارات معرفية متقدمة في مجال إدارة الموارد البشرية تضعهم في الصورة المستقبلية المطلوبة لصيغ التعامل مع الموارد البشرية وتنميتها.

ثالثاً: إكساب المشاركين مهارات معرفية حول مفاهيم وقضايا المؤسسات الافتراضية وأهميتها في تحسين الكفاءة والإنتاجية وتوفير ضمانات النجاح.

رابعاً: تأهيل المشارك بمهارات متخصصة في استخدام تقنيات الإدارة الإلكترونية.

خامساً: إكساب المشارك مهارات متقدمة في استخدام تقنيات المواءمة بين الموارد البشرية وبين الهياكل التنظيمية التي تفرضها الهندسة الإدارية والإدارة الإلكترونية.

3 أنشطة

وبشكل عام، فإن الهندسة البشرية تستهدف فئات ومستويات عديدة، والتي تبرز من بينها 3 أنشطة وهي:

  1. تصمیم المنتجات والمعدات والأدوات في كل من: المنتجات الاستخدامیة، وأدوات ومعدات العمل، والماكینات والأجهزة، والأثاثات والمعدات المكتبیة، والأثاثات والأجهزة والمعدات والأدوات المنزلیة.
  2. تصمیم الأماكن وأنشطة الأفراد المهنیة، الأمر الذي يشمل كلاً من: المهندسين والإداریين والعاملين في المصانع، والموظفين والإداريين في المكاتب، والأطباء فى عیاداتهم ومستشفياتهم، والعاملين في الحرف والمهن البسيطة والمهن الخدمية، والعاملين في جميع الأنشطة الأخرى (كالزراعة مثلاً)، وغير هؤلاء كثيرين، مثل المدرس والطالب والممرض وعمال النظافة والخدمات.
  3. التصميم للفئات الخاصة من المستهلكين، كالمسنين، والمعوقين، والأطفال، والمرأة في بعض ظروف حیاتها كالحمل.

الجودة والاستغراق

وحتى ندرك قيمة وأهمية الهندسة البشرية وانعكاسها على الأداء وجودته في المؤسسات المختلفة، فقد تصدى العديد من الباحثين لهذه المهمة، فعلى سبيل المثال تناول رغيد الحيالي في بحثه الذي ركز على العلاقة بين الهندسة البشرية وضمان الجودة، التي يراها من الأهمية بمكان أن نسلط عليها الضوء، حيث يؤكد الباحث على وجود هذه العلاقة وبروزها من خلال 3 عناصر مشتركة بينهما، وتتمثل في كل من: التحسين، والمراقبة، والتخطيط. ولذلك فقد أبدى الحيالي توصيتين على درجة من الأهمية، ونحتاج إلى تطبيقهما بشكل متميز لتحقيق التناغم والإبداع بين الموارد البشرية، وبيئة عملها، والآلات والماكينات التي يديرونها. وهاتان التوصيتان هما: تعميق الوعي لدى المديرين والعاملين في المؤسسات المختلفة، وأنه يجب على هذه المؤسسات تطوير مهارات ومعارف وقدرات منسوبيها من خلال إتاحة دورات تدريبية لهم في مجالات الهندسة البشرية وضمان الجودة وكل ما هو جديد في هذين المجالين، وذلك بالتعاون مع الجهات المعنية، كالجامعات.

بينما عالجت شيلان محمود في أطروحتها العلمية عن دور بعض عناصر الهندسة البشرية في الاستغراق الوظيفي الذي تنظر إليه باعتباره الدرجة التي يتطابق فيها الفرد مع وظيفته، حيث يركز الفرد ذو الاستغراق الوظيفي المرتفع على عمله ويعمل بفاعلية؛ من أجل إنجاز المهام المسندة والموكلة إليه، ويعد أدائه مهماً لقيمته الذاتية. وتتضمن أبعاد الاستغراق الوظيفي ما يلي: المشاركة في اتخاذ القرار، وتوسيع العمل، والاستقلال في العمل، والعلاقة مع الزملاء، والرضا عن العمل، والتغذية العكسية. وقد أثبتت الباحثة أن أهم عوامل الهندسة البشرية المؤثرة بشكل أكبر في الاستغراق الوظيفي تتمثل في الصحة والسلامة المهنية، والعوامل النفسية للعامل.

"شارلي شابلن"

وختاماً، فربما يختزل البعض مجال ودور الهندسة البشرية في مجرد الأداء الصحي والآمن للإنسان في علاقته بالآلات أو بيئة العمل، إلا أن هذا التصور يعتريه القصور؛ فهو لا يكشف إلا أحد مجالاتها. ولكننا لا يمكن أن ننكر-وفقاً لما ينقله "منتدى الهندسة"-أن نظام التصميم الجيد يوفر الأداء الأمثل؛ لأنه يقوم بدراسة كافة نواحي القوة والضعف لكل من العنصرين البشرى والآلي، فيصبحان وحدة واحدة طبقاً لأسس وقواعد علم الهندسة البشرية. فأحد الأهداف الرئيسية لعلم الهندسة البشرية هو منع الحوادث والأمراض الناجمة عن العمل، وقد أظهرت بعض الإحصائيات التي تصدر سنوياً في الولايات المتحدة أن أكثر من 60% من الأمراض بسبب العمل هي تلك التي تتضمنها الإصابات الناجمة عن الحركات المتكررة والمستمرة، مثل ربط مسامير معينة في خط إنتاج تجميعي. وأحد أعراض هذا المرض هو إصابة العامل بارتعاش لا إرادي في يده بعد استمراره في العمل مدة طويلة وإظهاره نفس حركات ربط المسمار بيده.

وربما شاهد الكثير منا أحد الأفلام القديمة لـ"شارلي شابلن" الذي كان يقوم بدور عامل في مصنع على خط إنتاج تجميعي يتحرك أمامه بسرعة معينة، وكانت وظيفة "شابلن" هي ربط صامولة بمفتاح في حركة سريعة ومتكررة. وكان من عادة صاحب العمل أن يزيد من سرعة خط الإنتاج عند اقتراب موعد انصراف العمال طمعاً في كسب المزيد من الوقت، وبالتالي ازدادت سرعة العمل وسرعة الحركة المتكررة في ربط الصامولة؛ وكانت النتيجة أن خرج" شارلي شابلن" من المصنع يعاني من أعراض هذا المرض بحركات سريعة بيده مشابهة تماماً لعمله في المصنع بأسلوب كوميدي مضحك، ولكنه صحيح من الناحية العلمية.

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة