الابتكار في القطاع العام..طريق الحكومات للتنمية الاقتصادية

يواجه القطاع العام العديد من التحديات الجادة التي يراها الخبراء سلاحاً ذا حدين؛ فإما أن تعصف به وباستمراريته، وإما أن تتحول إلى ميزة تنافسية تمكنه من تحقيق التميز والجودة في الأداء، وذلك إذا تبنى استراتيجيات وأساليب ترتكز على الابتكار الذي يمثل طوق النجاة لهذا القطاع في مواجهة هذه التحديات. فربما يرى البعض أن المحددات والضوابط والقيود الحاكمة لبيئات عمل القطاع العام، إضافة إلى أن الثقافة المؤسسية السائدة فيه تميل إلى تجنب المخاطرة؛ هي ما يكبح جماح تعزيز الممارسات الابتكارية المطلوبة في هذا القطاع. إلا أنه في ظل التنافسية الحالية والاتجاه نحو تقوية القطاع العام وتجويد منتجاته وخدماته المقدمة للمجتمع؛ فإن إعادة صياغة دوره تصبح مطلباً ملحاً. فالابتكار في القطاع العام تأثيره عام وشامل في المجتمع، ويمكن استخدامه كرافعة للارتقاء بهذا المجتمع. وفي ضوء هذا الطرح العصري نطالع معكم في هذا العدد كتاباً مترجماً صادراً عن معهد الإدارة العامة، بعنوان: "الابتكار في القطاع العام"، قام بتحريره كل من: فيكتور بيكرز وجوريان إديلينبوس وبرام ستيجن، وترجمه للعربية د.بندر بن قاسم الهجن.

5 ابتكارات واختلافان

يتكون الكتاب من 4 أجزاء تتضمن 11 فصلاً متنوعاً، ويبلغ عدد صفحاته 344 صفحة. ويمثل الجزء الأول منها "مقدمة"، ففي الفصل الأول المعنون: "الربط بين الابتكار والقطاع العام" يبرز جانبان: الأول هو أن الحكومات تلعب دوراً مهماً في خلق الظروف التي تُمكٍن الاقتصاد القائم على المعرفة والابتكار من الازدهار، وثانيهما هو أنه لا تنجح الاقتصادات المبتكرة إلا إذا كان القطاع العام قادراً على تطوير ذاته لكي يصبح مبتكراً وقادراً على التعامل مع عدد من التحديات الاجتماعية المهمة، مثل جودة نظام التعليم. كذلك يوضح هذا الفصل أبعاد ثورة الإدارة العامة القائمة على السوق وانتقال الوظائف التقليدية للدولة والقطاع العام في تقديم السلع والخدمات (شبه) العامة إلى القطاع الخاص، والتوجه بشكل أقوى نحو السوق، بافتراض أنه ينبغي على المواطنين أن يتصرفوا كمستهلكين عقلانيين.

ويسلط هذا الفصل الضوء على "الإدارة العامة التنفيذية الجديدة" التي نشأت في أواخر عقد الثمانينيات كتسمية أُطلقت على مجموعة متنوعة من الإصلاحات في القطاع العام، وأن الابتكار في القطاع العام هو شرط ضروري لتحديث الحكومة لمواجهة التحديات الاجتماعية الجديدة، ويتطلب التغيير والرغبة في التعلم. ويمكن تصنيف الابتكارات في القطاع العام إلى 5 تصنيفات هي: ابتكارات المنتج أو الخدمة، وابتكارات العمليات، والابتكارات المفاهيمية، والابتكارات في الحوكمة، والابتكارات المؤسسية. وحتى تتضح الصورة لدى القارئ يوضح الفصل أن الابتكار في القطاع العام يختلف عنه في القطاع الخاص في أمرين هما: السياق المؤسسي الذي تنشآن فيه، وأن الهدف النهائي من الابتكار في القطاع العام هو تحقيق الشرعية.

اعتقاد خاطئ

أما الجزء الثاني من الكتاب-والذي يضم 4 فصول-فيركز على "السياقات والعمليات وجوانب الابتكار"، فيقدم الفصل الثاني نظرة تمهيدية عامة عن الابتكار في القطاع العام، من خلال بعض الملاحظات العامة التي تساعد في تكوين منظور مفاهيمي وتاريخي عن الابتكار. بينما يطرح الفصل الثالث تساؤلين مهمين هما: ما مدى انتشار الابتكار في القطاع العام؟ وما أوجه تشابه الابتكار في القطاع العام مع الخاص؟ وأن الاعتقاد السائد هو أن المؤسسات العامة أقل ابتكاراً من نظيراتها الخاصة، وهو ما يدحضه الواقع؛ فالاحتمال الكبير هو أن الابتكار كان موجوداً بشكل دائم في القطاع العام، وبأشكال مماثلة لتلك الموجودة في القطاع الخاص. ويؤكد هذا الفصل على أهمية دراسة كيفية حدوث الابتكار في مؤسسات القطاع العام، وتوجيه المزيد من الاهتمام للابتكار بوصفه جانباً مهماً للتغيير في هذا القطاع.

ويرصد الفصل الرابع مسيرة "الدول الصغيرة" مع الابتكار والقدرة الإدارية، فيبين أن الابتكار (والتنمية الاقتصادية بشكل عام) قد نشأ في دول صغيرة يمكن وصفها بمقاييس اليوم دويلات، فمدن مثل البندقية وفلورنسا كانت ناجحة للغاية في الابتكار باستخدام المعرفة لتحقيق مكاسب اقتصادية، والتفوق على دول أكبر منها. ويناقش الفصل الخامس "الابتكار في القطاع العام على المستوى الحضري"، وذلك بالتطبيق على حالة المشتريات العامة التي تعتبر كهدف للابتكار أداة مهمة في سياسة الابتكار الوطني منذ الحرب العالمية الثانية.

القيم والقدرات

ينتقل الكتاب في الجزء الثالث منه إلى "الشبكات والابتكار"، فيلفت الفصل السادس إلى "الابتكار داخل الحكومة" في ضوء علاقة الشبكات بالابتكار داخل الحكومة، حيث يبحث مفهوم الشبكات وتأسيس إطار تحليلي يمكن من خلاله استشراف دور الشبكات في عملية الابتكار، وتسليط الضوء على المبتكرين وصفاتهم. ويشير الفصل السابع إلى "القيم المتنافسة في إدارة المشاريع الابتكارية"، فهذه المشاريع لها عناصرها الابتكارية التي تتطلب مجالاً للارتجال والتفاعل بين المنفذين، وهذا عادة غير متاح في معظم إدارة المشاريع. ويواجه باستمرار مديرو هذه المشاريع توتراً طبيعياً بين طبيعتها وطبيعة الابتكار، وهنا يثار التساؤل المحوري لهذا الفصل وهو: كيف يمكن لمديري المشاريع احترام القيم المتنافسة بين الابتكار وتلبية محددات واضحة؟ ويسعى الفصل الثامن إلى "استكشاف القدرات الابتكارية لدى شبكات المديرين وداخل الحكومات"، وهو ما سيتم تحقيقه من خلال طرح التساؤلات الآتية: من هم مديرو الشبكات الفعليين؟ وما أدوار الإدارة في هذا السياق؟ وكيف تدعم هذه الأدوار القدرات الابتكارية لحل المشاكل بين الحكومات؟ ويعالج الفصل التاسع "الابتكار الريادي في الرعاية الصحية"، حيث التمييز بين نوعين من الابتكارات: الريادية، والمؤسساتية، واللذان يرتبطان بالتغيرات الجارية في أنظمة الرعاية الصحية.

الابتكار الاجتماعي

ويتطرق الجزء الرابع من الكتاب إلى "المناقشة"، فيتحدث الفصل العاشر عن "قطاع عام مبتكر"، فالابتكار في القطاع العام يمكن وصفه بأنه عملية تعلٌم تحاول الحكومات من خلالها التصدي لتحديات اجتماعية محددة، مثل مكافحة الجريمة. ونجد أن الابتكار الناجح في القطاع العام يتطرق إلى مدى قدرة الحكومات على تطوير خدمات وطرق عمل ومفاهيم جديدة تمكنهم من التعامل مع القضايا الصعبة التي يحاول المجتمع (كمجتمع سياسي) معالجتها. وينتقل الفصل الحادي عشر إلى "منظور الابتكار الاجتماعي في القطاع العام"، وهو المفهوم "السحري" الجديد الذي يستخدمه صانعو السياسات لتبرير مجموعة من الإصلاحات التي تمس بشكل أساسي الدور التقليدي للحكومة في المجتمع، وقد تبنى صناع القرار في حكومتي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إضافة إلى المفوضية الأوربية هذا المفهوم.

 

 

​​

 
 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة