رغم الاتهامات بالتشكيك والفشل الإدارة بالأرقام..إنجازات تتحدث عن نفسها

"لا لغة تفوق لغة الأرقام"، هذه المقولة تبرز أهمية الأرقام التي وُصِفت بأنها لا تكذب، وبأنها موضوعية؛ بينما يتهمها البعض بأنها ربما كانت مضللة في بعض الأحيان. فهناك جدل حول أهمية وجدوى موقع الأرقام في عالم الإدارة والمؤسسات والأداء. وبالرغم من ذلك، فإن الواقع يؤكد على أنها أصبحت أسلوباً ونهجاً يدعم التوجه نحو تطبيق "الإدارة بالأرقام"، وسيراً على هذا النهج نرى من خلال تصفحنا الكثير من المواقع الإلكترونية للعديد من المؤسسات على المستويين الدولي والمحلي، سواء الحكومية أو العامة والخاصة تدرج بيانات بهذه المواقع تشير إلى تبنيها وتطبيقها "الإدارة بالأرقام". في هذا التقرير نصحبكم للتعرف على مفردات لغة "الإدارة بالأرقام" في مواجهة انتقادات المشككين وتدليلهم على ذلك بتجارب-يرونها فاشلة-ومشكلات ارتبطت بسجلات وتاريخ شركات ومؤسسات مشهورة.

مرونة وسرعة

نستهل هذا التقرير بما يوضحه لنا محمود عواد في كتابه "الإدارة بالأرقام" أن المقصود بها إعطاء الأرقام الأولوية قبل صناعة أي قرار أو أخذ أي انطباع، ونتوصل إلى هذه الأولوية بشكل ناجح من خلال تطوير فن صناعة الأرقام وقياس سير العمليات ومتابعة مستوى الإنجاز والأداء وعرضها على صيغة الأرقام والرسومات بشكل يتميز بما يلي:

·        سهولة الفهم والقراءة.

·        سهولة الربط مع المقاييس والمؤثرات الأخرى.

·        التطلع إلى خدمة صنع القرار والتطور للمؤسسة.

ويؤكد عواد أن أهمية الإدارة بالأرقام في أنها على عكس الإدارة التقليدية التي تتطلب التجربة وانتظار النتائج، بل إن الإدارة بالأرقام تسمح لنا بمتابعة كل قرار أولاً بأول، وأنها مرنة من حيث قابلية تطبيقها مع كافة أنواع الفلسفات الإدارية، بل إنها تعد الوسيلة الوحيدة علمياً لقياس أداء أي فلسفة إدارية أخرى. كما أن الاكتفاء بالظاهر والحدس فقط في قياس التأثير أو حتى الانتظار حتى نهاية الشهر أو السنة لقياس الأثر، يعتبر مخاطرة كبيرة في عصرنا الحالي؛ نظراً للتكلفة المتزايدة على الشركات مقابل كل ساعة عمل.

ومن جهة أخرى، يعتبر تطبيق الإدارة بالأرقام مفيداً من ناحية المرونة في قياس الأثر العام لأي قرار، وغالباً ما كانت الشركات تتعرض لمشاكل كبيرة وتبقى تبحث عن السبب حتى تظهر النتيجة بالصدفة في وقت متأخر. يقول أحدهم "إن أخطر الساعات على النصر هي لحظة النصر"، وهذا بالضبط ما يكون عند اكتشاف سبب مشكلة عن طريق الحدس أو الصدفة فينشغل الموظفون في لحظة النصر ولحظة الاكتشاف، وينسون أنهم لو طبقوا طرقاً أخرى من الإدارة لتم اكتشاف هذا الأثر في وقت أسرع وخسائر أقل.

لغة الأرقام

وفي ضوء هذا التوجه، يرى البعض أن لغة الأرقام في عالمنا اليوم ربما تصبح أكثر منطقية في مجال الإنجاز ولا تفوقها أي لغة، لكن بشرط عدم المبالغة وأن تتصف هذه الأرقام بالمصداقية. وهو الأمر الذي يحذر منه راشد الفوزان في صحيفة "الرياض" بقوله: أسمع كثيراً من الحوارات من مجالس ومنتديات ومسؤولين، وكثيراً مما يتردد وحين تطرح سؤالاً محدداً وتقول "هل لديك أرقام"؟ والأرقام تحضر وتطلب حين يكون ضرورة واستدلال على أساسها الأرقام. تسمع كلمة بطالة؟ أزمة سكن؟ متوسط الرواتب أو مستويات الرواتب؟ من ينفي أرقام تنشر كدخل الدولة أو قيمة مشروع أو صيانة، أرقام كثيرة نحتاجها للاستدلال بها والحوار أصبحت السمة الغالبة العشوائية، حتى في الرياضة عدد جماهير أو بطولات كل يضع رقماً، نسبة الأمراض وانتشارها وغيره الكثير مما نحتاجه في حياتنا اليومية، وهذا ما يجعل أي نقاش غير دقيق أو صحيح وفاقد المصداقية، ومع ذلك نستمر ونناقش وكل يزيد من طرفه، ولا تفهم سبب المبالغات بالأرقام وتضخيمها مع كل حوار ونقل، فتفقد الغالبية الثقة بالحوار والمحاور؛ لأنه لا شيء صحيحاً.

وعلى جانب آخر يرى الفوزان ما لهذه اللغة من انعكاس على الأداء والإنجاز فيذكر أن المسؤول يتحدث عن منجزات وعمل وأن هناك ما يُنجز وحين تقول كرماً منك نريد لغة أرقام، نادراً من يتحدث بلغة الأرقام إلا الواثق الذي يعمل، فلغة الأرقام لا تقبل النقاش ولا التسويف ولا الجدل كثيراً. كم مدرسة كانت؟ وكم أصبحت؟، كم طائرة كانت؟ وكم أصبحت؟، كم البطالة؟ وكم أصبحت؟، كم عدد المستشفيات؟ وكم أصبحت؟، كم عدد المتخلفين من الأجانب؟ وكم أصبحوا؟، كم نسبة إنجاز المعاملة أو النظر في قضية في وزارة العدل؟ وكم أصبحت؟، كم نسبة الاعتماد على النفط؟ وكم أصبحت؟، كم؟ وكم...؟ فالكثير من الأرقام نحتاجها لكي ندرك ونعلم ونعرف ما ينجز. لغة الروايات والتصاريح بلا أرقام وإحصاء يجب أن تتوقف وتنتهي فهي لا تعني شيئا بدون أرقام، فالجمهور أصبح أكثر وعياً ومعرفة وإدراكاً ويجب أن يحترم، وكلما اقترب المسؤول من أن يكون شفافاً ومستعداً لكل شيء فهو ينجز ويعمل ولا يخاف ويهاب شيئاً، وهذا هو المطلب شفافية مع إنجاز وعمل بارز وعلى الأرض.

لنغير أسلوب حوارنا كمواطنين ومسؤولين، أن تكون لغة يردفها الأرقام، والحقيقة بلا مبالغة وعدم تضخيم، وأن ينتهج المسؤول لغة الأرقام والإحصاء والمقارنة للفترات مع الحالية، هذا سيضع بدقة مستوى العمل وما ينجز، ومن يعمل أو لا يعمل بكل بساطة ووضوح وشفافية، وهذا ما نحتاجه كثيرا ببلادنا التي اغرقتها لغة التضخيم والعشوائية وعدت المصداقية ككرة تكبر مع مرورها أكثر بين الناس، لنتوقف عن هذا الأسلوب الذي سلبياته تفوق إيجابياته بكل وضوح وشفافية.

مثال جيد

وحتى ندرك أهمية الإدارة بالأرقام في الارتقاء بمعدلات الأداء، يذكر عبدالعزيز سبهاني في صحيفة "مكة المكرمة" مثالاً جيداً يوضح الدور التحفيزي لهذا النوع من الإدارة وأهميته في إثارة التنافس بين منسوبي المؤسسات المختلفة لتحقيق معدلات عالية. ففي أثناء زيارة أحد أصحاب المصانع لمصنعه، لاحظ أن العمل يسير ببطء متناه، وأن الموظفين لا يقومون بإتمام الحصة المطلوبة لليوم الواحد، فسأل مدير المصنع، كيف لرجل في مثل براعتك وقدرتك يعجز عن تحفيز الموظفين على تحقيق الإنتاجية المطلوبة منهم؟، فكان الرد من المدير أنه لا يعلم السبب، وأنه قد قام بتحفيز الموظفين، وأيضا أصدر بحقهم بعض العقوبات إلا أن الحال كما تشاهد! كان هذا النقاش قبل نهاية اليوم للفترة الأولى، وقبل حضور الفترة الثانية أخذ صاحب المصنع قطعة طباشير، وسأل المدير عن الكمية التي تم تحقيقها اليوم، فأجاب ست قطع فقط!، فقام صاحب المصنع بتدوين الرقم ستة على جدار الحائط أمام المدخل وبالخط العريض وانصرف، عند حضور موظفي الفترة الثانية تساءلوا عن معنى الرقم ستة المدون على الحائط؟، فأجابهم موظفو الفترة الأولى أن صاحب المصنع كان هنا، وتساءل عن الإنتاجية بفترتنا، فأخبرناه، وقام بتدوين ما تم تحقيقه كما ترون.

في اليوم التالي حضر صاحب المصنع صباحا، ووجد هو وموظفو الفترة الأولى أنه قد تم تدوين الرقم ثمانية عوضا عن الرقم ستة، عندها علم الموظفون أن الفترة السابقة قد حققت إنجازا يفوق إنجازهم، وأنهم كفريق آخر قد حققوا ما عجزوا هم عن تحقيقه، وقبل نهاية ذلك اليوم، تم تدوين الرقم 12، وبهذه الطريقة، أصبح العمل أكثر إنتاجية وجدية وحماسا وإثارة، ورغبة في التفوق لإثبات المقدرة على العطاء، والقدرة على التحقيق. استطاع صاحب المصنع إثارة روح الإنتاج التي لم يتفهمها المدير، فصاحب المصنع يتمتع بمهارة يطلق عليها مضاعفة الجهد بلغة الأرقام، وهي طريقة ذكية في رفع معدلات الأداء، وكمهارة فهي تحمل في داخلها التوقع بأن الموظفين يرغبون في تحقيق نتائج استثنائية عندما تحفزهم بطريقة تولد الرغبة في تحقيق التفوق، فخطوة واحدة بنهاية فترة عمل أوجدت قفزة بصبيحة يوم عمل آخر، فالتحول الذي أحدثه صاحب المصنع هو تفعيل الانضباط الذاتي الذي يساعد لوصول الموهبة والكفاءة إلى أقصاها. إن لغة الأرقام تساعد الموظفين في معرفة ما المطلوب تحقيقه، وتسهم في معرفة ما تم إنجازه.

فشل وأزمة "بوينج"

وبالرغم من ذلك-وفقا لما تورده صحيفة "الاقتصادية"-فإن صعود نهج الإدارة بالأرقام، هو اتجاه زاد كثيرا منذ الثمانينيات وما بعدها، وذلك بفضل نظرية "قيمة المساهمين". وهي تقول إن المديرين التنفيذيين يجب ألا يقلقوا بشأن أي شيء بقدر سعر سهم شركاتهم الذي هو، بالطبع، مدعوم دائما بنهج تخفيض التكاليف ذاته الذي قد ينتهي به المطاف أن يصبح مكلفا جدا على المدى الطويل. ويمكن أن يؤدي عصر البيانات الكبيرة إلى تفاقم الوضع. فهناك عديد من الأشياء التي يمكن قياسها هذه الأيام ما يسهّل، الآن أكثر من أي وقت مضى، التركيز على مقياس الأرقام بدلا من مقياس القيمة.

 

وفي ضوء ذلك يطرح موقع "أرقام" تساؤلاً مهماً وهو: "كيف أثبتت التجارب فشل منهج "الإدارة المدعومة بالأرقام؟"، فيذكر أن البعض يتساءل منذ فترة عن مدى حكمة وفاعلية الإدارة المدفوعة بالأرقام، والتي اشتهرت في القرن التاسع عشر في أمريكا بفضل كتابات "فريدريك وينسلو تايلور"، وهو مهندس ميكانيكي اعتاد الوقوف بجوار العمال في مصنعه ممسكًا بيده ساعة للتأكد من أنهم يقومون بكل مهمة بأعلى قدر من الكفاءة.

ويستعرض الموقع 4 تجارب تثير الشكوك في جدوى هذا المنهج، والتي يأتي في مقدمتها الأزمة التي تتعرض لها شركة "بوينغ"، حيث تتجه حاليًا شركة "إيرباص" إلى تجاوز نظيرتها الأمريكية لتصبح أكبر صانعة طائرات في العالم، بفضل منع تحليق طائرات "بوينغ 737 ماكس" بعد تعرض الطراز إلى حادثتين منفصلتين. فقد كان هناك العديد من العوامل وراء الكارثة، لكن يبدو أن أحد العوامل المهمة هو قبول الشركة بالمخاطرة من أجل زيادة الأرباح إلى أقصى حد، وتعرضت "بوينغ" لانتقادات بسبب الاستعانة بمهندسين من جهات خارجية (مقابل 9 دولارات في الساعة). ليس ذلك فحسب، حيث فرضت الشركة رسومًا إضافية على بعض خصائص السلامة، وتعجلت كثيرًا في طرح الطراز في السوق من أجل محاولة الاستحواذ على الطلبيات التي قد تذهب إلى منافستها الأوروبية "إيرباص".

"باسيفيك جاس آند إلكتريك"

 ويتابع موقع "أرقام" تدليله على شكوك البعض بشأن جدوى "الإدارة بالأرقام"؛ فيؤكد على أنه لم تتحول أزمة "بوينغ" إلى كارثة طبيعية، كما حدث مع شركة "باسيفيك جاس آند إلكتريك" للطاقة في كاليفورنيا، والتي وفقًا لما توصل إليه تحقيق أجرته "وول ستريت جورنال"، كانت على علم لسنوات بحاجة خطوط الكهرباء إلى تحديث قبل أن تثير حريقاً هائلاً. وبحسب التحقيق، قررت الشركة عدم الاستثمار في عمليات التحديث، والآن بعد سقوط خط الإمداد البالغ عمره قرناً من الزمان، والذي أدى إلى حريق راح ضحيته 88 شخصًا، تواجه الشركة مطالبات قانونية لسداد ما يزيد على 30 مليار دولار، وقد تقدمت بطلب لحمايتها من الإفلاس

مشكلات "جنرال إلكتريك" و"موتورز"

على جانب آخر، تنبع العديد من المشكلات المتتالية في شركة "جنرال إلكتريك" من تبعات عهد رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي السابق "جاك ويلش" الذي تبنى نهج الإدارة المدفوعة بالأرقام، ما دفعه بعيدًا عن الأعمال الأساسية لصالح الهندسة المالية.

إن أزمة مفتاح الإشعال التي ارتبطت باسم العلامة التجارية لـ"جنرال موتورز" خلال عامي 2013 و2014، والتي بدا في البداية أنها نتيجة قرار سيئ من جانب مهندس واحد، اتضح أن لها جذورًا أيضًا تعود إلى فترة خفض الميزانية الاستثنائية خلال العقد الأول من القرن العشرين. وقال أحد المهندسين في تقرير موجه إلى مجلس إدارة "جنرال موتورز" حول الأزمة، إن السيطرة على التكاليف تغلغلت وانتشرت في "النسيج الثقافي للشركة".

فمن المؤكد، لم تكن "جنرال موتورز" فريدة من نوعها بين شركات صناعة السيارات، ولطرازاتها تاريخ من المشكلات، مثل تلك المتعلقة بـ"فورد بينتو" قبل عقود، حيث كانت السيارة عرضة للاشتعال حال اصطدمت من الخلف. وقد علمت الشركة أن "بينتو" بها مشكلات تتعلق بالسلامة، لكن تحليل التكلفة والمكسب خلص إلى أن إصلاح المشكلة في عملية استدعاء للمركبات سيكون أكثر تكلفة من التكلفة المقدرة لتعويض العملاء عن أي إصابات ووفيات، فقررت الإبقاء عليها في الشوارع دون استدعاء.

 

​​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة