الاقتصاد وأصول "التنمية الإقليمية"

كانت، ومازالت، الفجوة الاقتصادية العميقة بين أوضاع الدول المتقدمة وأوضاع الدول النامية تمثل المحرك الأساسي لظهور الفكر التنموي الحديث؛ ذلك لأن الهدف الأساسي من كل أفكار التنمية هو محاولة تحديد مسببات ظهور هذه الفجوة، ثم البحث في الوسائل الكفيلة بردمها، وبما يتوافق مع ظروف وخصوصيات الدول النامية.

​ولما كان الفكر التنموي يعتمد على قواعد وأصول عملية رصينة، وتدور كلها حول طرق الاستغلال الرشيد للموارد الاقتصادية، فإن هيكل موارد الدولة، وحالة الوفرة أو الندرة التي تتميز بها هذه الموارد، تلعب دوراً بارزاً في ترتيب أفكار التنمية التي تناسب أوضاع وظروف هذه الدولة أو تلك. فعندما تكون الموارد البشرية هي عماد الموارد الاقتصادية، سيركز الفكر التنموي السائد داخلة الدولة على تعزيز دور البشر في صناعة التنمية وفي تعزيز استدامتها. انظر مثلا لحالة الاقتصاد الصيني؛ فستجد أن تطوير إنتاجية عماله هي أبرز ما اهتمت به برامج التنمية التي اعتمدتها سياساته الاقتصادية، وهي أيضا أبرز إنجازاته التنموية. أما عندما تكون الموارد الطبيعية هي المكون الأول في قائمة موارد الدولة، سيصبح الاهتمام بتوظيف هذه الموارد بطريقة تنموية هو الشغل الشاغل للفكر التنموي؛ وهذا حال غالبية البلدان المنتجة للموارد الطبيعية الخام، كحال الاقتصاد الخليجي عموما. وعلى هذا المنوال، تصبح أفكار وأطروحات "التنمية الإقليمية" سائدة في البلدان واسعة الرقعة الجغرافية ومنخفضة الكثافة السكانية، وستسيطر هذه الأفكار والأطروحات على عملية رسم السياسات الاقتصادية التي تستهدف زيادة إنتاجية أقاليهما الجغرافية.

والتنمية الإقليمية-وفق هذا المنظور-تعني عملية متعددة المناهج لتطوير الأقاليم الجغرافية للدولة، ولرفع قدراتها في اشباع الحاجات الأساسية لسكان هذه الأقاليم. كما أن لهذه التنمية أبعاداً متعددة. فهناك البُعد القطاعي الذي يدور اهتمامه حول البحث في مدى ملائمة القطاعات الاقتصادية للجغرافيا المكانية، وماهية الآثار المترتبة على تخصص إقليم معين في نشاط اقتصادي دون غيره. وهناك بُعد جغرافي يركز على قضايا التوازن الجغرافي، ويستهدف أن تعم النهضة الحضرية والاقتصادية كامل الأقاليم الجغرافية للدولة، بطريقة عادلة وبدون تحيز قطاعي وتركز استثماري. ولكي نزيد مصطلح "التنمية الإقليمية" وضوحا، سنحاول تسليط بعض الأضواء على أصول هذه التنمية في حالة اقتصاد واسع الرقعة الجغرافية كالاقتصاد السعودي، ثم نتبعه باقتراح بعض المؤشرات التي تقيسها.

إن جولة ميدانية في مناطق المملكة الخمسة كفيلة بأن توضح التطور الملحوظ الذي شهدته البنية الأساسية (الفوقية والتحتية) في هذه المناطق، وكافية لتؤكد على حقيقة ارتفاع نصيب نفقات البنية الأساسية من جملة الإنفاق العام السنوي للحكومة. وبمنطق التنمية، هناك علاقة وطيدة بين تطور قطاع البنية الأساسية وبين تعمق التنمية الإقليمية. ولا غرابة في ذلك طالما علمنا أن هذه البنية الأساسية تسهم في تحقيق الترابط والتكامل بين أقاليم المملكة أفقياً، وتعزز التشابكات القطاعية داخل كل إقليم رأسيا. والملاحظة الجديرة بالتأمل هنا، هي أن اتساع رقعة المملكة الجغرافية، وتنوع مواردها الطبيعية في أقاليمها المختلفة، وانتشار المناطق الاستثمارية والمدن الصناعية المتخصصة في هذه الأقاليم، كل ذلك لم يقف حائلاً دون حدوث طفرة في ترابطها الجغرافي بفعل البنية الأساسية المتطورة. فالبنية الأساسية إذن قد ساهمت في خلق روابط أفقية قوية بين الأقاليم والمناطق الاستثمارية والمدن الصناعية السعودية وبعضها البعض، وبينها وبين الأسواق الداخلية والخارجية. لكن تجدر الملاحظة أيضا أنه لا توجد شواهد قوية تدل على فاعلية هذه البنية الأساسية في تطوير التشابك القطاعي الرأسي داخل كل إقليم على حدة. وبعبارة أخرى، لا تتوافر لدينا دلائل على نجاح البنية الأساسية المتطورة في تعميق التصنيع التنموي داخل الأقاليم المختلفة. ودليلنا على ذلك أن المدخلات المستوردة مازالت تشكل نسبة مهمة من مدخلات الإنتاج في القطاعات القائمة في الأقاليم والمناطق والمدن الاستثمارية والصناعية. وبالنتيجة، مازالت أحوال التنمية الإقليمية تفتقر للمقومات الضرورية-وفي مقدمتها البنى الأساسية اللازمة-لكي تترابط الأنشطة الاقتصادية رأسيا لتكون "العناقيد الصناعية" التنموية. ولكي يُعالج هذا القصور، نعتقد أنه يتعين على صانع سياسات التنمية الإقليمية أن يهتدي بالمؤشرات التالية وهو يرسم سياسات المستقبل التنموية:

·         مؤشر درجة التوازن الإقليمي: وهو يقيس عدالة توزيع الإنفاق الاستثماري العام والخاص على القطاعات الاقتصادية المختلفة داخل الأقاليم الجغرافية. ويمكن قياسه بطريقة المتوسطات الجغرافية البسيطة والمركبة، من خلال نسبة حجم الإنتاج داخل الإقليم إلى عدد سكانه و/أو إلى مساحته الجغرافية، ثم عقد مقارنات منتظمة بين الأقاليم المختلفة، لتقييم التطور في هذا المؤشر.

·         مؤشر درجة العمق الصناعي والتوطن التكنولوجي داخل الإقليم: بعقد مقارنة بين أسعار مدخلات الإنتاج وأسعار السلع والخدمات المنتجة؛ لتحديد مقدار القيمة المضافة لعناصر الإنتاج داخل الإقليم، ثم تحديد مساهمة عنصر التكنولوجيا في هذه القيمة المضافة، مع تحديد التطور في نسبة تكنولوجيا التصنيع لإجمالي الأصول المشتغلة في الإقليم ومقارنتها بباقي الأقاليم.

·         مؤشر درجة المهارة العمالية من داخل الإقليم: وتحدد من خلال حساب التطور في أجر ساعة العمل، ومن خلال نسبة الأجور للكفاءات الوطنية إلى إجمالي القيمة المضافة داخل الإقليم.

·         مؤشر المكون المحلي في الأنشطة الاقتصادية للإقليم: ويقتصر حساب هذا المكون على الإقليم المراد قياسه، وعلى المكونات التي تنتج داخل الإقليم وفق "شهادات منشأ إقليمية" نقترحها. وبمراعاة هذا المؤشر؛ سيحدث ترابط بين أنشطة الإقليم مع الموارد الطبيعية المتوافرة بالجوار أو بالقرب منه، وبما يقلل من تكاليف النقل والتخزين والإنتاج.

·         مؤشر العائد على البنية الأساسية داخل الإقليم: ويحسب من خلال توزيع قيمة أصول هذه البنية الأساسية على الأقاليم المختلفة، ثم نسبة الإنتاج الكلي داخل الإقليم الى حصته من البنية الأساسية.

وعموما، فإذا أمكن للمؤشرات السابقة أن تساعد في قياس التطور الحاصل في التنمية الإقليمية داخل الاقتصاد الوطني، فإنها ستقوم بدور رقابي فعال في الحفاظ على أصول هذه التنمية في حالة الاقتصاد السعودي؛ وبما يجعل اتساع الرقعة الجغرافية السعودية خادما للتنمية الاقتصادية المستدامة، لا معطلا لها!

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة