إعداد/ د.أحمد زكريا أحمد
عندما يهب القدر فرصة العمر لشخص ما كي يصبح ثريًا وسط عالم وعمالقة "وول ستريت" وشركات تربح مليارات الدولارات، لا تعترف بأي فشل ولا ترحم مَن يقف في طريقها؛ فهو شخص غير عادي. إنه "براد كاتسوياما" ذلك الشاب الذي لم يتجاوز عمره الثلاثينيات، والذي واجه القوة التداولية الغاشمة لـ"المعاملات فائقة السرعة" في حركة التداول للأسهم عبر أسواق البورصة المالية بـ"وول ستريت" بالولايات المتحدة الأمريكية. فقد ابتكر "مطبات السرعة" لإعاقة هذه المعاملات، بل وحقق مليارات الدولارات من الاستثمار في هذا العالم. وسرعان ما لفتت الأحداث وشخصية "كاتسوياما" الأنظار إليها؛ فقام "مايكل لويس" بتأليف كتاب بعنوان: "فلاش بويز" لتسليط الضوء على هذه الشخصية وفريقه وشركته. كذلك قررت شركة "سوني بيكتشرز إنترتينمنت" إنتاج فيلم سينمائي عنه.
المخاطر و"الانهيار الخاطف"
غالبًا ما تحمل النهايات في طياتها بدايات أخرى، وهذا ما ينطبق تمامًا على نظام "المعاملات فائقة السرعة" الذي كان سائدًا في بورصة "وول ستريت" ويتحكم في حركة تداول الأسهم بسرعة فائقة تكاد لا تتجاوز الجزء من الثانية. فبحسب موقع شركة "آي إي إكس IEX" التي أسسها "براد كاتسوياما" وفريقه فإن هذا النظام سبَّب أضرارًا جمة للمستثمرين والمتداولين في البورصة. وهو ما يؤكده موقع "أرقام" المتخصص في عالم المال والأعمال والإدارة، وذلك من خلال التركيز على أبرز الانتقادات الموجهة للمعاملات فائقة السرعة، والمتمثلة في الآتي:
• هناك مخاوف من الاعتماد الكلي على أجهزة الكمبيوتر، وما قد يترتب عليه من مخاطر تتمثل في خروج أحد هذه الأجهزة عن نطاق السيطرة وحدوث خلل مفاجئ.
•وقد تؤدي المعاملات السريعة التي تتم في غضون ثوانٍ إلى حدوث حركة كبيرة في السوق دون سبب، فعلى سبيل المثال انخفض مؤشر "داو جونز" الصناعي في السادس من شهر مايو/آيار لعام 2010 بحوالي 600 نقطة وهو ما سُمي بـ"الانهيار الخاطف"، قبل أن يرتفع مرة أخرى في حوالي 20 دقيقة، وأرجعت تحقيقات الحكومة السبب إلى تعطل النظام. وقد تسبب ذلك الأمر في محو قرابة تريليون دولار من القيمة السوقية لأسهم مؤشر "داو جونز" قبل تعافيها مجددًا، ورغم اتهام متداول بريطاني بالضلوع في الأمر يبقى القلق قائما من إمكانية اختراق أنظمة أكبر بورصات العالم قائمًا دون أن يعلم أحد، حيث ظل الأمر لغزًا لمدة 6 سنوات قبل اكتشافه.
•كما تسمح "المعاملات فائقة السرعة" للشركات الكبيرة بالربح على حساب الشركات الصغيرة وصغار المستثمرين، إضافة إلى الاستغناء عن عدد كبير من السماسرة والمتداولين بسببها.
جزء من الثانية
وحتى ندرك خطورة هذه الانتقادات؛ فقد بات من الضروري أن نتعرف على المقصود بهذه المعاملات، وهو ما يوضحه موقع "عربي BBC NEWS" أن "المعاملات فائقة السرعة" عبارة عن نظام يستعمل برامج حاسوبية معقدة للقيام بملايين التعاملات المالية والتجارية في الثانية الواحدة، من خلال استعمال معلومات مولّدة بسرعات تفوق أضعاف سرعة غمضة العين، حيث يمكن لأجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة تلك، والتي تستعمل برامج "المعاملات فائقة السرعة" المثبتة عليها أن تقدِّر القيمة المرتفعة لسعر سهم من الأسهم قبل أن يحصل ذلك الارتفاع في السعر بالفعل. وقد مكّن نظام "المعاملات فائقة السرعة" الذي بدأ منذ عام 1999م، بعض بنوك الاستثمار الضخمة وصناديق التحوّط (المَحافظ الوقائية) وغيرها من مؤسسات الاستثمار من أن تشتري أسهمًا في جزء من الثانية (أو في غضون مايكروثانية، وهو واحد من المليون من الثانية) قبل غيرها من الشركات الأخرى. وبالتالي فإن هذه الشركات تحقق أرباحًا تعادل مليارات من الدولارات على مدى عدة سنوات، من خلال بيع تلك الأسهم بسعر أعلى.
مقدمو السيولة التكميلية
وربما يتساءل البعض: لماذا انتشر نظام "المعاملات فائقة السرعة" بالرغم من كل هذه الانتقادات؟ وهو ما يجيب عليه موقع "أرقام"، فيذكر أن هذا النظام اكتسب شعبيته منذ أن بدأت عمليات التبادل تُقدم حوافز للشركات، تتمثل في إضافة السيولة إلى السوق. فعلى سبيل المثال لدى بورصة نيويورك للأوراق المالية مجموعة من مزودي السيولة تُعرف باسم "مقدمو السيولة التكميلية". وتحاول هذه المجموعة إضافة المنافسة والسيولة للأموال الموجودة في البورصة كحافز للشركات، إذ بدأ عمل هذه المجموعة بعد انهيار بنك "ليمان براذرز" عام 2008م، حيث شكّلت السيولة مصدر قلق كبير بالنسبة للمستثمرين. وقبل إدخال هذا النوع من "المعاملات فائقة السرعة" كانت أسواق الأوراق المالية، مثل بورصة نيويورك تعمل بنظام "المزاد المزدوج"، ومع استخدام أنظمة التداول الإلكترونية خلقت نظامًا جديدًا فائق السرعة لبيع وشراء الأوراق المالية. وتشير معظم التقديرات إلى أن "المعاملات فائقة السرعة" تُمثل الآن نسبة تتراوح بين 50% إلى 75% من حجم تداول الأسهم، ويشمل المتداولون الذين يستخدمون هذا النوع من المعاملات كلًا من الشركات الصغيرة والأقل شهرة، وكذلك البنوك الاستثمارية الكبيرة وصناديق التحوط.
"الطفل الذهبي"
إلا أن نظام "المعاملات فائقة السرعة" أثار اهتمام "كاتسوياما" عام 2002م، وهو في عمر 24 عامًا، من خلال عمله كممثل لـ"رويال بنك أوف كندا" في نيويورك، وهو تاسع أكبر بنك في العالم، وهي القصة التي يرويها لنا المؤلف الاقتصادي "مايكل لويس" في كتابه "Flash Boys – A Wall Street Revolt" الذي تستعرضه منصة "The Investor's PODCAST Network". فقد أدرك هذا الشاب-الذي ينحدر من أصول أسيوية وهاجر مع والديه إلى كندا-أن هناك اختلافًا كبيرًا بين كندا والولايات المتحدة الأمريكية، إذ واجه صعوبة في التكيف مع المتداولين الذين التقى بهم في نيويورك. وبالرغم من ذلك، كان واثقًا في قدراته، ومهاراته، خاصة التحليلية منها. فبعد بضع سنوات من التداول، بدأ يحقق تقدمًا كبيرًا وكان يُعرف أيضًا باسم "الطفل الذهبي".
أسعار مريبة للأسهم
بدأت مشاكل "كاتسوياما" عندما اشترى البنك شركة تجارية ذات سمعة جيدة اسمها Carlin Financial مقابل 100 مليون دولار في عام 2006م. وكان "جيريمي فرومر" الرئيس التنفيذي لهذه الشركة، على النقيض تمامًا مما كانت عليه الثقافة التنظيمية للبنك الكندي. وبمرور الوقت، أصبح من الصعب بشكل متزايد على "كاتسوياما" وزملائه التكيف مع هذا الوضع. وفي الوقت نفسه، كان هذا الشاب على موعد مع القدر. فقد لاحظ "كاتسوياما"-أيضًا-أن السوق كان يتصرف بشكل غريب. كما أدرك أنه لم يعد بإمكانه الثقة في شاشته نظرًا لوجود شيء غريب يحدث. على سبيل المثال، عندما أرادت شركته (رويال بنك أوف كندا) شراء 100 ألف سهم بسعر 20 دولارًا للسهم الواحد، وكانت المعلومات الموجودة-عبر شاشة جهازه-تشير إلى أن هذا العدد من الأسهم متاح للشراء بهذا السعر، فسيكون بمقدوره عادةً معالجة هذا الطلب بسهولة. ولكن لسبب ما، كانت الأمور تحدث على نحو مختلف وغريب ومريب.فحينما أراد شرائها لم يستطع إلا شراء 20 ألف سهم فقط منها بسعر 20 دولارًا للسهم، بينما ارتفع سعر الـ 80 ألف سهم الأخرى. كما لو كان شخص ما يقرأ أفكاره ويستشرف رأيه، ويغير موقفه بمجرد الضغط على زر الشراء. وبعد بحث شامل، أدرك أن هناك شيئًا شريرًا وغامضًا يحدث في الخفاء وأن النظام مزيف.
مطبات السرعة
وبحسب موقع عربي BBC NEWS، تأمل "كاتسوياما" الذي كان يستثمر لزبائن من أمثال صناديق التقاعد الكندية ولم يكن ممن يستطيعون استخدام نظام "المعاملات فائقة السرعة"، وآمن بأن ذلك غير عادل بالمرّة. فعقد العزم على القيام بشيء لعرقلة ذلك النظام؛ فبدأ مع فريق من زملائه العمل لإيجاد وسيلة لتعطيل عمل نظام الأجهزة فائقة السرعة أو نظام "إتش إف تي". لذلك ابتكروا ما يشبه "مطبات السرعة" الموجودة على الطرقات، وهي منظومة يتم من خلالها إبطاء التعاملات التجارية والمالية بمقدار 350 مايكروثانية، مستعملين 38 ميلًا من أسلاك الألياف البصرية المخزونة في علبة بحجم صندوق أحذية. وربما لا يبدو ذلك وكأنه فاصل زمني مهم، لكنه إبطاء كافٍ لمنع الشركات التي تعتمد على أنظمة "المعاملات فائقة السرعة" من السيطرة على السوق.
بدايات صعبة
عقب ذلك، تطورت الأحداث بشكل دراماتيكي، فقد أسس "كاتسوياما" في عام 2012م شركة سمسرة للأسهم تدعى "آي إي إكس"-بعدما ترك "رويال بنك أوف كندا"-والتي استفادت من نظامه الجديد الخاص بإبطاء سرعة أنظمة "المعلومات فائقة السرعة" التي تستخدمها بعض الشركات الكبرى لتحقيق مكاسب فائقة وضخمة. وبالتالي، فإن مشتري الأسهم ممن يستفيدون من خدمات شركته لم يواجهوا المخاطر التي كانت تواجهها شركات وجهات أخرى. وفي المقابل كانت "آي إي إكس" تجني أرباحها من خلال الحصول على عمولة من عملائها. الجدير بالذكر أن الشركة بدأت عملها في مكاتب بدون نوافذ ولا تتجاوز مساحتها 19 مترًا مربعًا تقريبًا في وسط حي مانهاتن. وكانت بالكاد تدفع مرتبات العاملين فيها، وواجهت صعوبات كبيرة كي تحصل على تمويل باعتبارها شركة ناشئة.
"فلاش بويز" والنجاح
وبإصرار "كاتسوياما" وفريقه، وطموحاتهم وعدم استسلامهم، بدأت شركة "آي إي إكس" في النهاية في تحقيق تقدم بين المتاجرين في سوق الأوراق المالية ممن أرادوا الخلاص من سوق تقليدية تبدو وكأنها تغشهم. وقد كان "كاتسوياما" وشركته على موعد مع النجاح الكبير في مارس/آذار عام 2014م عندما قام الصحفي "مايكل لويس" بتأليف كتاب "فلاش بويز"، ثم طرحه في الأسواق. فقد كان هذا الكتاب فاتحة خير على "كاتسوياما"، إذ تغيَّر مسار حياته، واتضح الدور الكبير للكتاب في أنه ساعد الناس على أن يفهموا تفاصيل تلك المسألة المتعلقة بـ"المعلومات فائقة السرعة". وعقب طرحه، حقق الكتاب نجاحًا كبيرًا وأصبح من بين أفضل الكتب مبيعًا، لذلك بدأت شركة "آي إي إكس" في تلقي المئات من الطلبات. وقد تبوأت الشركة مكانة أعلى حينما تقدَّم "كاتسوياما" بطلب لأن تصبح شركته بورصة جديدة ومسجلة. وحققت النجاح تلو الآخر، فأصبحت الشركة تضم فريق عمل يتكون حاليًا من 61 شخصًا. كذلك طورت الشركة مكاتبها وباتت تحتل الطابق رقم 44 من المبنى الرابع لمركز التجارة العالمي.