الإدارة بالأرقام ..
هل التركيز عليها مضلل أم ناجح لقياس الأثر العام؟

الإدارة بالأرقام ..
هل التركيز عليها مضلل أم ناجح لقياس الأثر العام؟

تسعى الكثير من المنظمات للحصول على الأرقام المرتفعة لتتباهي بإنجازاتها، اعتقاداً منهم أن تلك الأرقام تمنحها النجاح والتميز على المنظمات الأخرى، وأن لغة الأرقام تساعد الموظفين في معرفة ما المطلوب تحقيقه، وتسهم في معرفة ما تم إنجازه.

لكن السؤال: هل أثبتت التجارب نجاح منهج الإدارة المدعومة بالأرقام أم فشل هذا التوجه في قياس الأثر العام؟

لغة الأرقام
ويتداول في عالم الإدارة مقولة “لا لغة تفوق لغة الأرقام”، وهذه المقولة تبرز أهمية الأرقام التي وُصِفت بأنها لا تكذب، وبأنها موضوعية؛ بينما يتهمها البعض بأنها ربما كانت مضللة في بعض الأحيان. فهناك جدل حول أهمية وجدوى موقع الأرقام في عالم الإدارة والمنظمات والأداء. وبالرغم من ذلك، فإن الواقع يؤكد على أنها أصبحت أسلوباً ونهجاً يدعم التوجه نحو تطبيق “الإدارة بالأرقام”، رغم بروز تجارب  فاشلة، ومشكلات ارتبطت بأرقام وسجلات وتاريخ شركات ومنظمات مشهورة.
الأرقام الأولوية
ويقول الدكتور محمود عواد في كتابه “الإدارة بالأرقام” أن المقصود بها إعطاء الأرقام الأولوية قبل صناعة أي قرار أو أخذ أي انطباع، ونتوصل إلى هذه الأولوية بشكل ناجح من خلال تطوير فن صناعة الأرقام وقياس سير العمليات ومتابعة مستوى الإنجاز والأداء وعرضها على صيغة الأرقام والرسومات بشكل يتميز بسهولة الفهم والقراءة، وسهولة الربط مع المقاييس والمؤثرات الأخرى، والتطلع إلى خدمة صنع القرار والتطور للمؤسسة، ويؤكد الدكتور محمود عواد أن أهمية الإدارة بالأرقام في أنها على عكس الإدارة التقليدية التي تتطلب التجربة وانتظار النتائج، بل إن الإدارة بالأرقام تسمح لنا بمتابعة كل قرار أولاً بأول، وأنها مرنة من حيث قابلية تطبيقها مع كافة أنواع الفلسفات الإدارية، بل إنها تعد الوسيلة الوحيدة علمياً لقياس أداء أي فلسفة إدارية أخرى، كما أن الاكتفاء بالظاهر والحدس فقط في قياس التأثير أو حتى الانتظار حتى نهاية الشهر أو السنة لقياس الأثر، يعتبر مخاطرة كبيرة في عصرنا الحالي؛ نظراً للتكلفة المتزايدة على الشركات مقابل كل ساعة عمل.
قياس الأثر العام
ومن جهة أخرى، يعتبر تطبيق الإدارة بالأرقام مفيداً من ناحية المرونة في قياس الأثر العام لأي قرار، وغالباً ما كانت المنظمات تتعرض لمشاكل كبيرة، وتبقى تبحث عن السبب حتى تظهر النتيجة بالصدفة في وقت متأخر. يقول أحدهم:“إن أخطر الساعات على النصر هي لحظة النصر”، وهذا بالضبط ما يكون عند اكتشاف سبب مشكلة عن طريق الحدس أو الصدفة ؛فينشغل الموظفون في لحظة النصر ولحظة الاكتشاف، وينسون أنهم لو طبقوا طرقاً أخرى من الإدارة لتم اكتشاف هذا الأثر في وقت أسرع وخسائر أقل.
القياس والادارة
وفي ذات الإطار تقول الحكمة المشهورة التي تنسب على الأرجح للمستشار الإداري الأمريكي والمحاضر “بينر دراكر”، “إذا لم تستطع قياسها، فلن تتمكن من إدارتها”، ولعل شهرة هذه المقولة تفسر الاهتمام الكبير للمنظمات بمعايير القياس، بحسب تقرير لـ”فايننشال تايمز”، وتُولي المنظمات والشركات العامة الكبرى ومتعددة الجنسيات على وجه التحديد، اهتمامًا كبيرًا بأدوات القياس، كونها تستخدم هذه المقاييس عند خفض التكاليف وتقليص الخسائر والأرباح في القوائم المالية لسنوات.
حكمة وفاعلية
لكن البعض يتساءل عن مدى حكمة وفاعلية الإدارة المدفوعة بالأرقام، والتي اشتهرت في القرن التاسع عشر في أمريكا بفضل كتابات «فريدريك وينسلو تايلور»، وهو مهندس ميكانيكي اعتاد الوقوف بجوار العمال في مصنعه ممسكًا بيده ساعة للتأكد من أنهم يقومون بكل مهمة بأعلى قدر من الكفاءة.
أزمة «بوينغ»
يبدو أن الأزمة التي تعرضت لها شركة «بوينغ» تعكس الشكوك بشأن هذا النهج في ادارتها، حيث تتجه الشركة المنافسة «إيرباص» إلى تجاوز «بوينغ» لتصبح أكبر صانعة طائرات في العالم، بسبب قرار منع تحليق طائرات «بوينغ 737 ماكس» بعد تعرضها لحادثتين منفصلتين، وكان هناك العديد من العوامل وراء الكارثة، لكن يبدو أن أحد العوامل المهمة هو قبول الشركة بالمخاطرة من أجل زيادة الأرباح إلى أقصى حد، وتعرضت «بوينغ» لانتقادات بسبب الاستعانة بمهندسين من جهات خارجية (مقابل 9 دولارات في الساعة)، ليس ذلك فحسب بل فرضت الشركة رسومًا إضافية على بعض خصائص السلامة، وتعجلت كثيرًا في طرح الطراز في السوق من أجل محاولة الاستحواذ على أرقام الطلبيات التي قد تذهب إلى منافستها الأوروبية «إيرباص». إذا كان الأمر كذلك، فهذه ليست المرة الأولى لشركة «بيونغ» الأمريكية، فلديها بالفعل سجل إشكالي مع طراز «دريملاينر»، حيث عانت في السابق من سلسلة إمداد معقدة للغاية تبدو أرقامها رخيصة على الورق، لكنها أدت إلى كل أنواع التأخير وتجاوز التكاليف بـ»الأرقام».
التركيز على الأرقام مضلل
وحدث ذات الأمر مع شركة “باسيفيك جاس آند إلكتريك” للطاقة في كاليفورنيا، والتي وفقًا لما توصل إليه تحقيق أجرته “وول ستريت جورنال”، كانت على علم لسنوات بحاجة خطوط الكهرباء إلى تحديث قبل أن تثير حريقًا هائلًا، وبحسب التحقيق، قررت الشركة عدم الاستثمار في عمليات التحديث، لكن بعد سقوط خط الإمداد البالغ عمره قرناً من الزمان، والذي أدى إلى حريق راح ضحيته 88 شخصًا، تواجه الشركة مطالبات قانونية لسداد ما يزيد على 30 مليار دولار، وقد تقدمت بطلب لحمايتها من الإفلاس، وعلى جانب آخر، تنبع العديد من المشكلات المتتالية في شركة “جنرال إلكتريك” من تبعات عهد رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي السابق “جاك ويلش” الذي تبنى نهج الإدارة المدفوعة بالأرقام، ما دفعه بعيدًا عن الأعمال الأساسية لصالح الهندسة المالية.
مفتاح الإشعال
كذلك حادثة ما عرف بأزمة مفتاح الإشعال التي ارتبطت باسم العلامة التجارية لـ”جنرال موتورز” خلال عامي 2013 و2014، والتي بدا في البداية أنها نتيجة قرار سيئ من جانب مهندس واحد، اتضح أن لها جذورًا أيضًا تعود إلى فترة خفض الميزانية الاستثنائية خلال العقد الأول من القرن العشرين، قال أحد المهندسين في تقرير موجه إلى مجلس إدارة “جنرال موتورز” حول الأزمة: إن السيطرة على التكاليف تغلغلت وانتشرت في “النسيج الثقافي للشركة”. ومن المؤكد، لم تكن “جنرال موتورز” فريدة من نوعها بين شركات صناعة السيارات، ولطرازاتها تاريخ من المشاكل، مثل تلك المتعلقة بـ”فورد بينتو” قبل عقود، حيث كانت السيارة عرضة للاشتعال حال اصطدمت من الخلف، وعلمت الشركة أن “بينتو” بها مشاكل تتعلق بالسلامة، لكن تحليل التكلفة والمكسب خلص إلى أن إصلاح المشكلة في عملية استدعاء للمركبات سيكون أكثر تكلفة من التكلفة المقدرة لتعويض العملاء عن أي إصابات وفيات، فقررت الإبقاء عليها في الشوارع دون استدعاء.
قيمة المساهمين
وفي السياق ذاته يأتي صعود منهج الإدارة المدعومة بالأرقام مدعومًا بنظرية «قيمة المساهمين»، حيث يدعو ذلك المديرين التنفيذيين إلى عدم القلق بشأن أي شيء بقدر سعر سهم الشركة، والذي بالطبع يحصل على الدعم مع خفض التكاليف، لكن قد يعني ذلك نهاية غالية الثمن على المدى البعيد، والبعض قد يقول إن العالم في نقطة تحول، فمع صعود الاستثمار المسؤول اجتماعيًا والتركيز الأكبر على حوكمة الشركات، واهتمام المستهلكين الأصغر سنًا بقيم الشركات التي تصنع منتجاتهم، وصعود الشركات العملاقة في الأسواق الناشئة، جميعها عوامل مضادة للإدارة المدعومة بالأرقام،  لكن على العالم أن يخشى تسبب عصر البيانات الضخمة في تفاقم الوضع، وهناك العديد من الأشياء التي يمكن قياسها هذه الأيام ما يجعل من الأسهل التركيز على المقاييس بدلًا من أحكام القيمة، في مواجهة الضغوط وأزمات الشركات، وبالتالي على الرؤساء التنفيذيين أصحاب الحكمة أن يفكروا مليًا قبل التوجه إلى الهندسة المالية لإنقاذهم، فالإدارة بالأرقام في نهاية المطاف لعبة مخادعة، كما يقال، وأمور مثل التكاليف الحقيقية والسمعة والأخلاقيات لا تستدعي المخاطرة.
مدير المصنع
ونختم بهذه الحكاية التي قد تدعم توجه الإدارة بالأرقام، ففي زيارة أحد رجال الأعمال لمصنعه، لاحظ أن العمل يسير ببطء متناه، وأن الموظفين لا يقومون بإتمام الحصة المطلوبة لليوم الواحد، فسأل مدير المصنع، كيف لرجل في مثل براعتك وقدرتك يعجز عن تحفيز الموظفين على تحقيق الإنتاجية المطلوبة منهم؟، فكان الرد من المدير أنه لا يعلم السبب، وأنه قد قام بتحفيز الموظفين، وأيضا أصدر بحقهم بعض العقوبات إلا أن الحال كما تشاهد، كان هذا النقاش قبل نهاية اليوم للفترة الأولى، وقبل حضور الفترة الثانية أخذ صاحب المصنع قطعة طباشير، وسأل المدير عن الكمية التي تم تحقيقها اليوم، فأجاب ست قطع فقط!، فقام صاحب المصنع بتدوين الرقم ستة على جدار الحائط أمام المدخل وبالخط العريض وانصرف، عند حضور موظفي الفترة الثانية تساءلوا عن معنى الرقم ستة المدون على الحائط؟ فأجابهم موظفو الفترة الأولى أن صاحب المصنع كان هنا، وتساءل عن الإنتاجية بفترتنا، فأخبرناه، وقام بتدوين ما تم تحقيقه كما ترون، وفي اليوم التالي حضر صاحب المصنع صباحاً، ووجد هو وموظفو الفترة الأولى أنه قد تم تدوين الرقم ثمانية عوضا عن الرقم ستة، عندها علم الموظفون أن الفترة السابقة قد حققت إنجازا يفوق إنجازهم، وأنهم كفريق آخر قد حققوا ما عجزوا هم عن تحقيقه، وقبل نهاية ذلك اليوم، تم تدوين الرقم 12، وبهذه الطريقة، أصبح العمل أكثر إنتاجية وجدية وحماسا وإثارة، ورغبة في التفوق لإثبات المقدرة على العطاء، والقدرة على التحقيق، واستطاع صاحب المصنع بث روح الإنتاج التي لم يتفهمها المدير، فصاحب المصنع يتمتع بمهارة يطلق عليها مضاعفة الجهد بلغة الأرقام، وهي طريقة ذكية في رفع معدلات الأداء، وكمهارة فهي تحمل في داخلها التوقع بأن الموظفين يرغبون في تحقيق نتائج استثنائية عندما تحفزهم بطريقة تولد الرغبة في تحقيق التفوق، فخطوة واحدة بنهاية فترة عمل أوجدت قفزة بصبيحة يوم عمل آخر، فالتحول الذي أحدثه صاحب المصنع هو تفعيل الانضباط الذاتي الذي يساعد لوصول الموهبة والكفاءة إلى أقصاها.

 


 
01/11/1445
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة