أفضل سنوات العمر إنتاجاً تبدأ بعد "الأربعين" و"الخمسين"

  • لماذا لا يُستفاد من قدرات وخبرات مَن هم فوق الستين في مهام أخرى؟
  • لا تتوقَّف حياة الأكبر سِنًّا على راتب التقاعد بل على الروابط الأسرية والعلاقات الاجتماعية الجيدة.

     

كل شيء هادئ، الصمت يعم المنزل، تعبث الرياح الخفيفة بالستائر الرقيقة على النافذة بينما يتخلَّلها ضوء الشمس، وعلى كرسي في ركن ظليل من الغرفة، يجلس الأستاذ حسين وحيداً، يحاول أن يفهم كيف من المفترض أن يعيش حياته الجديدة هذه، بعد أن وصل إلى سن الستين واضطر للتقاعد عن العمل.

الحركة والعمل

لم يكن يعشق عمله موظفا في مصلحة حكومية، ولكنه كان يمنحه -على الأقل- شيئا ليستيقظ من أجله في الصباح، وبعض التسلية بالتندُّر مع زملائه حول وجبة الإفطار البسيطة التي كانوا يتشاركونها يوميا من عند "عم محمد" بائع الفول على ناصية الشارع الذي يقع فيه محل عمله. من الغريب أن تجد نفسك بعد 60 عاما من الحركة والعمل، والحياة المفعمة بالنشاط، وربما بالأحلام والطموحات، جالسا في منزلك بلا هدف، الآن عليك أن تقضي العشرين عاما القادمة تفعل اللاشيء، تستيقظ وتأكل وتشاهد التلفاز، وربما تخرج للمشي قليلا أو الجلوس على المقهى أو متابعة مباراة كرة القدم لفريقك المفضل، تتسامر مع بعض أصدقائك ثم تعود إلى البيت لتنام. تستيقظ في الصباح التالي وتُكرِّر تفاصيل يومك السابق نفسها، لا شيء جديد على الساحة.

الحياة بلا معنى

بالتدريج، قد يبدو أن الحياة أصبحت بلا معنى، أنت لا تعمل، لا تُقدِّم شيئا ملموسا للآخرين، حتى إن حياتك قد تبدو بلا قيمة.

العمل أكسير الحياة؛فقد كان 78% من الرجال الأميركيين يستمرون في العمل بعد سن الـ 65. التقاعد فكرة حديثة للغاية في تاريخ الجنس البشري، لم نعرفها قبل القرن التاسع عشر، في ذلك الوقت، بينما كان نصف الأميركيين يعملون في الزراعة، كان 78% من الرجال الأميركيين يستمرون في العمل بعد سن الـ 65، أي إن المزارعين كانوا يستمرون في العمل ما دامت صحتهم تسمح لهم بذلك.

مسألة حياة أو موت

قديما، قبل أن تُخلق الحضارة الإنسانية، لم يكن هناك وجود لساعات العمل ولا سن التقاعد التي تسيطر على بيئة العمل العالمية في وقتنا الحالي، كانت الأمور أكثر بساطة مما هي عليه الآن. كان الإنسان القديم يخرج للصيد وجمع الثمار في النهار ثم يختبئ في كهفه ليلا، ويستمر على هذا المنوال حتى يموت من كبر السن أو بين أنياب أحد الوحوش المفترسة. كان الإنسان يعمل لأن العمل كان مسألة حياة أو موت. وحتى بعد نشأة الحضارات وبناء المجتمعات وإنشاء الحكومات وتنظيم كل أوجه الحياة، لم يكن لفكرة التقاعد وجود، فالناس يعملون ما داموا قادرين على العمل، ولا شيء يوقفهم سوى المرض أو الموت.

الأكثر سعادة

لتتخيل معنا كيف كان الوضع قبل القرن التاسع عشر، دعنا نُلقِ نظرة على مجموعة من البشر الذين يعيشون حاليا في أقصى الشرق. "أوكيناوا" (Okinawa) هي مقاطعة يابانية تقع في بحر الصين الشرقي، ويُعَدُّ سكانها من أكثر أهل الأرض سعادة، وأقلهم في الإصابة بالأمراض المزمنة، ويعمل بعض سكانها حتى سن الـ 98، ويعيشون 7 سنوات أطول من سكان الولايات المتحدة. قد يكون السر في الجينات المتوارثة في هذا العِرق، وقد يكون النظام الغذائي الغني بالعناصر ولكن قليل السعرات هو السبب، أو ربما لأنهم لا يملكون كلمة "تقاعد" في قاموسهم.  يعيش سكان هذه الجزيرة الفريدة بمبدأ "الإيكيجاي" (ikigai)، ويعني "السبب الذي تستيقظ من أجله في الصباح"، أي إنه الدافع الذي يُبقيك على قيد الحياة ويدفعك للاستمرار في العمل. ويُعَدُّ سكان أوكيناوا من أكثر أهل الأرض سعادة، وأقلهم في الإصابة بالأمراض المزمنة، ويعمل بعض سكانها حتى سن الـ 98.

القادرون على العمل

القانون الذي استمر أطول مما يجب، لماذا إذن نتقاعد على الإطلاق؟ لماذا لا يستمر القادرون على العمل؟ ولماذا لا يُستفاد من قدرات وخبرات مَن هم فوق الستين في مهام أخرى؟ في مرحلة ما من تاريخ الجنس البشري، بالتحديد في عام 1889، قرَّر المستشار الألماني أوتو فون بيسمارك (Otto von Bismarck) أن الحل الأمثل لخلق فرص عمل للشباب العاطل هي أن يدفع المال لمَن هم فوق السبعين أو العاجزين لكي يتقاعدوا، في حين تذهب وظائفهم للشباب. كان هذا أول نظام تقاعد حقيقي بمعاش سنوي مدفوع من الدولة يُطبَّق في العالم، الذي قلَّدته بقية الدول تباعا بتحديد سن التقاعد بين 65-70 عاما. الغريب في الأمر أن متوسط سن التقاعد لم يتغير كثيرا منذ أكثر من قرن من الزمن، رغم تحسُّن متوسطات أعمار البشر في الوقت الحالي (بفضل تطوُّر الطب والأنظمة الصحية على سبيل المثال). فبينما كان متوقَّعا ألا يعيش المواطن الألماني بعد عمر السبعين في أواخر القرن التاسع عشر، بحيث لا تضطر الدولة لصرف معاش سنوي له لسنوات طويلة، فإن الموظف في الوقت الحالي يتقاعد وهو في الستين من العمر، ثم يُمضي ثلاثة أو أربعة عقود من عمره بلا عمل، وحيدا أحيانا، ومليئا بالأحلام التي لم تتحقق، والأفكار التي لم تستفد منها البشرية بعد.

دفع الفواتير

الستون هي سن التقاعد الرسمية في العديد من الدول العربية، بينما ترتفع سن التقاعد لتصل إلى 67 عاما في الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الإسكندنافية. معظم أنظمة التقاعد في العالم تتضمَّن معاشا سنويا أو شهريا للمتقاعدين، وهذا طبيعي حتى يتمكَّن المتقاعد من الاستمرار في دفع الفواتير والحصول على الطعام والشراب والرعاية الصحية، لكن لا يبدو أن الجميع يستفيدون من معاشات التقاعد في الدول العربية، خاصة النساء، وأصحاب الأعمال الحرة، والعاملين بالزراعة والقطاعات غير الرسمية، حتى إن 35% من القوة العاملة في المنطقة العربية فقط تتمتع بمعاش للتقاعد، بينما قد تعاني الفئات قليلة الحظ من الفقر بعد توقُّفهم عن العمل. لم تكن هذه المشكلة ظاهرة سابقا في مجتمعاتنا العربية، بفضل التضامن بين الأجيال، حيث تعيش العائلات الممتدة في بيت واحد كبير، وتُتبادل الأدوار في الاعتناء بالأفراد الأكبر سِنًّا، وهكذا لا تتوقَّف حياة ودخل الأكبر سِنًّا على المعاش المُقدَّم من الحكومة، بل على الروابط الأسرية وأحيانا العلاقات الاجتماعية اللصيقة بالجيران. لكن الأمر تغيَّر كثيرا في السنوات الأخيرة، حين اختفت بيوت العائلات الممتدة بالتدريج، لتحل محلها بيوت صغيرة تحتوى أُسرا أصغر، وأصبحت المسافة بين الأبناء والآباء أكبر، وأصبحت شريحة كبيرة من كبار السن في المجتمعات العربية مُهدَّدة بالوحدة بل والفقر أيضا، خصوصا الفئات التي تعمل بدون أجر أو في القطاعات الخاصة التي لا تمنح معاشا للتقاعد.

متوسط العمر

قدرات غير عادية كان من المُعتاد في بداية القرن العشرين أن يُحرِز الفيزيائيون الحاصلون على جائزة نوبل سبقهم العلمي قبل سن الأربعين وأحيانا الثلاثين، لكن هذا تغير بحلول نهاية القرن العشرين، حيث أصبح متوسط العمر الذي يُنتج فيه الفيزيائيون أفضل أعمالهم 48 عاما، أما عن أشباه أينشتاين الذين يُحقِّقون اكتشافات علمية مذهلة في الفيزياء، أو حتى في الطب والكيمياء قبل سن الثلاثين، فقد أصبحوا شديدي الندرة في الوقت الحالي، وذلك بحسب التحليل الذي أجراه باحثون حول 525 جائزة نوبل في الفيزياء والكيمياء والطب بين عامَيْ 1901-2008.

ويمكن القول إن التصور القائل إن حياتك قد انتهت أو شارفت على نهايتها لمجرد بلوغك الأربعين أو الخمسين من العمر هو مجرد تمظهر اجتماعي لظاهرة قديمة متعلقة بطبيعة العمر والعمل قبل مئتي عام، ولكن اليوم، أصبح من المتوقَّع أن يتبقى لديك 30 أو 40 عاما أخرى لتعيشها بعد هذه السن، دون أن تقلق بشأن تدهور مهاراتك أو قدراتك العقلية مع التقدُّم في العمر، وكل إنسان يتفاعل ويستجيب لتغير الحياة بعد التقاعد بنمط مختلف عن الآخرين.

​ 

 
 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة