لعلها غيبوبة!

​​​​​​​​​​

رجل في الرمق الأخير من عمره، يصارع الموت القادم القريب بالذكريات، يصارعه بالصور، بالقصص والحكايا، بالضحكات المدفونة، والدموع التي انهمرت أمام شاطئ منسي مهجور، شاطئ بعيد، شاطئ لا يهتدي إلى رماله وأمواجه التي تتفجر في ثغر بحره أحد.
«يعقوب» يموت، إنه في آخر مرحلة من مرض خبيث يأكل أيامه القليلة المتبقية واحدًا واحدًا، يفيق كل صباح من دوامة الذكريات والأصوات المنسية على صوت «هيلين».
«هيلين» الممرضة الخمسينية التي تخاطبه بصيغة الجمع وكأنه طفل لم يزل بعد، طفل يحبو، طفل ينتظره عمرًا كاملًا يمتد نحو آفاق مستقبلية :»هل نمنا جيدًا؟ يبدو أننا أصبحنا كسالى أكثر من اللازم هذه الفترة، هلم نأكل طعام الفطور». ويسمعها يعقوب ويتجاهلها، يعلم وتعلم كم يكره هذه الطريقة في المخاطبة لكنها تستخدمها على أية حال ويضطر آسفًا لإجابتها آخرًا على أي حال.
يخرج بعدها لحديقة المشفى الذي هو أقرب لفندق فاخر، فندق لا يسكنه إلا الأثرياء المحتضرين، يحاور صديقه القس، يحكي له عن الإسلام فيعجب القس بثبات شرائعه عبر الزمن، يحاور الطبيبة النفسية يسألها ألف سؤال عنها، عن ذكرى يجاهد ألا تنفلت منه، عن «روضة».. «روضة» المعشوقة التي رحل عنها، قصة الحب التي تختلط بالعبرات والفرح والإثم، يعيش «يعقوب» ألذ ساعات حياته مع «روضة»، يخبر الجميع عن اسمها، «روضة» وتعني الحديقة، وتنجب «روضة» زينب، طفلة صغيرة عذبة يحملها ويلاعبها ويقبل وجنتيها ويشم ملء أنفه رائحة الآيسكريم والصيف في فمها الصغير العذب، تضحك ويضحك، ثم يبكي وتغسل دموعه وجهها الطفولي.
«يعقوب» داهمه المرض، وأدرك أنه راحل لا محالة، فينصحه صديقه بالذهاب لمشفى الأثرياء هذا، حديقة غناء وغرف فاخرة وصحبة ممتعة، العيب الوحيد أن الموت جاثم في كل مكان، لا يفصل بينه وبينهم سوى الانتظار، انتظار بطيء تتخلله شتى أنواع الآلام، مصحوبًا بليالٍ سهاد لا تنتهي، تغادر فيها الأشباح من أوكارها، تحادثه، تضايقه، تُبكيه، «روضة»، زينب، هديل، يمد يده، لكن الأصابع المفرودة عن آخرها لا تصل إليهن!
كل مساء يعود إلى غرفته، يطلب من «جانيت» الممرضة الشابة التي تعشق الاستماع لقصصه أن تشعل له سيجارة، لا يدخن، فقط يراقب الدخان يسبح في الهواء، ويسبح هو معه غارقًا منتشرًا في ذكرياته، وحينما يأتيه الموت وتأخذه الغيبوبة من فم الحياة، يحاول التكلم، يحاول إفشاء السر، «زينب»، «روضة»، لكن ابنه الشاب سيف لا يفهم، يسمع كلماته الأخيرة لكأنها آتية من جب بعيد :»زينب جدتي ماتت منذ زمن، وقال شيئًا عن حديقة، لا أفهم، لعلها الغيبوبة».

المصدر/ من كتاب - حكاية حب- للمؤلف غازي بن عبد الرحمن القصيبي​

 
 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة