«في قاعة الانتظار، كنت أفكر بمستقبلي، وتخيلته مُستقرًا. فكرت بالسنوات القادمة وما تحمله من مشاريعٍ وإنجازات، وقد ساعدني ذلك على الاسترخاء قبل المقابلة»، هذه الكلمات التي وصف بها صديقي محمد تجربة مقابلته الوظيفية، لا تعبر عن تجربته الشخصية فقط، وإنما تعبر عن تجربة جيلٍ بأكمله؛ انعدام وضوح الرؤية للمستقبل والقلق من تخبطات القرارات المصيرية، هي من المخاوف المتجذِّرة في طبيعة العيش تحت وطأة ضغوط العصر الحديث.
كان محمد كاتِبًا مُبدِعًا يحلم بتحويل شغفه بالكتابة إلى مهنةٍ يتفرّغ لها بعيدًا عن تخصصه الجامعي، ليعيش على مدخولها ويحقق ذاته بنجاحاتها. وعندما دعته إحدى الشركات الناشئة المتخصصة في صناعة المحتوى لإجراء مقابلة وظيفية، بَدا حلمه يتجلّى أمامه في تلك القاعة وهو ينتظر مناداة اسمه صباح ذلك اليوم.
«محمد» ناداه الرئيس التنفيذي للشركة بنفسه قبل أن يُحيّه بحفاوةٍ كبيرة ويقوده إلى غرفة الاجتماعات. أخذت أسئلة المقابلة طابعًا يميل إلى الدردشة والتعارف؛ سؤال تلو الآخر، حتى قام الرئيس التنفيذي بعكس الأدوار، حيث نادى عددًا كبيرًا من الموظفين ليجلسوا قبال محمد، ثم طلبه أن يسأل الجميع أي سؤالٍ يخطر في ذهنه بخصوص العمل في الشركة. وبعد عدة أسئلة وأجوبة مُباشرة ومُقتضبة، استشعر المدير رضى محمد، ثم أشار مرة أخرى إلى مجموعة الموظفين الجالسين قباله وقال مُبتسِمًا: «حسنًا إذن، هؤلاء هم أفراد أسرتك الجديدة».
اقترح المدير التنفيذي أن يبدأ محمد العمل بعقدٍ مؤقت لعدة أشهر، حتى يتسنّى لجميع الأطراف تقييم العلاقة المهنية قبل توقيع العقد الوظيفي. وافق محمد دون أي اشتراطات، وبدأ باستلام المشاريع على الفور. لكن سرعان ما اصطدمت طموحاته بعقبات المنظومة البيروقراطية، ووجد نفسه في مواقفٍ عديدة تدفعه اضطرارًا إلى المساومة على رؤيته الإبداعية، إما لإرضاء المحرر أو العميل. استمر على المساومة طوال فترة عمله حتى شعر بأنه لا يستطيع التفريق بين كتاباته وكتابات زملائه؛ كل هؤلاء المبدعين لم يعد هناك ما يميزهم سوى إكسسوارات مكاتبهم، وكل ما عدا ذلك من نتاجهم الكتابي كان يمر من خلال المطحنة التحريرية ذاتها، ليخرج منها إبداعًا مُعلّبًا تحت مسمى صناعة ونشر المحتوى.
«لقد تغاضيت عن كل هذا «قال محمد،»إنها شركة ناشئة تعمل وفق نموذج ربحي ناجح؛ فمَن أنا كي أقوم بعكس ذلك؟ كما أني ما زلت في بداية مسيرتي المهنية ولا يمكنني القيام بما يحلو لي في هذه المرحلة. لقد قضيت فترتي هناك مُلتزمًا بأعلى درجات المهنية في العمل، فعلت كل ما طُلِب مني ولم أقل لا أبدًا»، توقف للحظة، ثم أكمل بنبرة مشمئزة: «لكن ما عجزت عن استساغته هي تلك المرارة المتراكمة من انعدام المهنية التي واجهتها حتى آخر يومٍ لي في الشركة، وكأن حفاوة الاستقبال لم تكن سوى استعراضًا كاذبًا من الإداريين. عليك أن تعي يا صاحبي أن هذه كانت وظيفتي بالرغم من كونها مؤقتة، إنها وظيفتي الوحيدة، ومع اقتراب نهاية العقد، كنت ازحف نحو المجهول مجددًا. في تلك اللحظة، كنت مستعدًا للمساومة على أي شيء، لأني كنت في أمَسّ الحاجة للضمان الوظيفي، لشيءٍ من اليقين».
قام محمد مع بداية أسبوعه الأخير بمراسلة المسؤول عن عقده الوظيفي؛ مُطالبًا لقاءه لمناقشة عرض ترسيمه في الشركة. لكن الرد لم يأتِ كما توقعه؛ فالرد لم يأتِ بتاتًا «انقضى اليوم الأول والثاني والثالث والرابع، لا وجود لهذا الرجل لأنه كان يعمل في مكانٍ آخر، ولا وسيلة للتواصل معه سوى بريده الإلكتروني الذي لم يصلني منه شيء. لم أستطع النوم ليلة الأربعاء، وظللت مُستلقيًا على السرير حتى دخلنا فجر الخميس. حينها، رنّت إشعارات جهازي مُعلِنةً وصول رسالة جديدة إلى بريدي الإلكتروني. مددت يدي وسحبت جهازي، ثم فتحته لأرى اسم الرجل المسؤول عن العقد قد رد على رسالتي. ابتسمت خلف الشاشة المضيئة للجهاز مُتمسكًا بما تبقى لي من أمل، لكن بمجرد ما قرأت رسالته، شعرت وكأني أغرق في الظلمة مُثقلًا بسذاجتي» ابتسم بحرقة ثم أكمل: «اعتقدت أنه كتب رسالته في هذا الوقت لأنه شعر بالخجل من تأخره في الرد، اعتقدت أنه سيعتذر ويحدد لي موعدًا للقائه في صباح ذلك اليوم؛ لكن ما حصل كان مختلفًا».
مَال إلى الأمام وقد تحولت حرقته إلى ألم: «لقد كتب رسالته بلا أي مقدمات أو اعتذارات أو حتى أدنى شعور بالخجل؛ فكل ما أراد قوله في تلك الساعة المتأخرة هو أنه سيكون في إجازة ابتداءً من نهاية الأسبوع، وأن علي انتظاره حتى يعود من رحلته». رفع محمد يديه مُستسلِمًا ثم قال: «الآن دعني أخبرك يا صاحبي، أنا لست واهِمًا بمكانتي في هذه الحياة، فأنا لست محور هذا الكون، ولا أتوقع حضوري الدائم في أذهان كل الناس. لذا، كنت على أتم استعداد لتجاوز هذه المهزلة، لكني عجزت عن ذلك؛ فالشيء الوحيد الذي كسرني في تلك الرسالة «هو سطرها الأول». سحب هاتفه من جيبه، ثم فتح الرسالة من بريده الإلكتروني قبل أن يعطيني إياه، نظرت إلى الشاشة وقرأت ما كُتِب في السطر الأول «مرحبًا عمر» ! عدت بنظري إليه لأجده مُتعبًا من الذكرى وما تحمله من مشاعر الاغتراب.
إن ما أوصل محمد إلى هذه الدرجة من الأسى هو نظام العمل الذي لم يكتفِ بطمس إبداعه فقط، بل قام بطمس هويته أيضًا. فالرجل المسؤول عن عقده الوظيفي لم يكلف نفسه عناء التأكد من هوية الشخص الذي يراسله؛ لأنه بالنسبة إلى هذا الإداري، محمد هو عمر، و عمر هو محمد، وكلاهما بلا قيمة حقيقية تخوله لاستحقاق لقاءٍ خاص للحديث عن عقده الوظيفي، كما إنه غير مُستحق لأن يكون محمدًا في تلك الرسالة؛ إنه عمر، وعليه الانتظار إلى أن يعود المسؤول لتحديد مستقبله.
«لقد أزعجتني هذه الرسالة، أزعجتني بشدة» أكمل محمد، «أزعجتني حتى شعرت بالخجل من انزعاجي. كنت أقول لنفسي إنها مجرد رسالة، لا تضخّم الأمور لكني عجزت عن ذلك، فقد كنت تائهًا، لا أعلم إن كان يصح دفن مشاعري وتجاوز المسألة. لجأت حينها إلى العلاج النفسي ليساعدني على فهم الأمور وترتيبها، لكني كنت أغادر العيادة بسخطٍ متعاظم في كل مرة، حيث كانت الجلسات تتمحور حول إخفاقاتي في العمل، أين وكيف ولماذا أخفقت؟ وما الذي يمكن فعله لتجاوزها في المستقبل؟ للوهلة الأولي بَدا لي هذا منطقيًا، لكن مع مرور الوقت تبيّنت إصرار الأخصائي النفسي على تحميلي المسؤولية؛ فكل حادثة حصلت، كان يراها من زاوية تقصيري لا تقصير الإداريين؛ هناك فقط المسؤولية الفردية ولا شيء آخر، وأي محاولة لإشراك الإدارة في تحمل المسؤوليات، كان يعتبرها ممارسة لا واعية لتبرير الكسل والتقاعس الذي يتسم به جيلنا!».
هز محمد رأسه وقال: «لكن المهزلة لم تتوقف عند هذا الحد؛ فبعد عدة أسابيع من مغادرتي الشركة، وجدتها قد تعاونت مع هذا الأخصائي ليشارك في كتابة محتوى عن ظاهرة الهشاشة النفسية. وفي منشوراته، اِتهم الشباب بأنهم غير قادرين على تحمل مسؤوليات الحياة لما يعانونه من ضعف في الإرادة وشعور بالاستحقاقية المفرطة؛ ثم أخذ يُسطر أفكاره عن أزمة القيم الأخلاقية عند الأجيال الشابة، وعلاقتها المباشرة باضطراباتهم النفسية المتزايدة. كل هذا تحت شعار الشركة التي تسببت في اضطرابي النفسي في المقام الأول! إنها مهزلة حقيقية يا صاحبي، لأن هذا التعامي عن أثر البيئة في خلق قوى قاهرة للفرد، هو بحد ذاته عامل مؤثر على الصحة النفسية؛ فبمجرد ما يتم إخراج البيئة من المعادلة، لا يتبقى سوى الفرد ليتحمل كامل مسؤولية إخفاقاته»، توقف للحظة ثم ختم قصته قائِلًا: «ويالها من نظرة بائسة للحياة .. تفتقر إلى الواقعية والإنصاف».
- من كتاب/ «الهشاشة النفسية: لماذا أصبحنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟»، للمؤلف: إسماعيل عرفة، تاريخ النشر 2020