الهويات الإلكترونية القاتلة

بعض العرب استاؤوا، مؤخراً، من مشاهد تمثيلية في فيلم معرب عرض على منصة نتفليكس، ومن إيموجيز جديدة لشركة أبل ترمز لرجل حامل وآخر على رأسه تاج، ودخلوا في تفسيرات معقدة وغير متوقعة حولها، ولكنهم، مع استثناءات محدودة، لم يسجلوا اعتراضاً واضحاً على تجاوزات يومية تحدث في منصات التواصل الاجتماعي، وتحديداً في منصة تيك توك، فالمواد الخارجة تمثل المحتوى العربي الاكثر حضوراً عليها، ولدرجة نشر مقطع فيديو لاغتصاب حيوان، وهذا قد يقدم صورة غير دقيقة عن المجتمعات العربية واهتماماتها، خصوصاً أن المنصة لا تشترط التسجيل لتصفح مقاطعها ولا تحذفها إطلاقاً، وفيها تسامح كبير مع الإثارة واستفزاز الغرائز، وكأنها سوق مفتوحة للمتاجرة بالأجساد.

منصة تيك توك الصينية تعتبر الأولى على العالم بأكثر من ثلاثة مليارات مستخدم، حسب آخر الإحصاءات، وتأتي بعدها وعلى خجل منصة فيسبوك الأميركية، والمتوقع أن تشهد المنصات المرئية، في السنوات المقبلة، ارتفاعاً في الأرباح وأرقام المشاهدة، وذلك مقارنة بالمنصات التي تقوم على التدوين بصورة أساسية، وأشارت دراسة محلية أجريت في عام 2020، إلى أن السعوديين على تيك توك يفضلون اليوميات والفلوجز وبمعدل 35 مليار مشاهدة لكليهما، ومن ثم الكوميديا بواقع 13 مليار مشاهدة، ومعها الطبخ بسبعة مليارات مشاهدة، وأرباح المستخدم النشط في البث الحي قد تصل إلى عشرة آلاف دولار في الشهر، وهذا النوع من البث لا تراقبه إدارة تيك توك.

لا فرق بين التجاوزات الإلكترونية والتجاوزات في الأماكن العامة وعلى شاشات التلفزيون، والانحطاط الأخلاقي يمثل إرهاباً على أخلاق المجتمع يتساوى في تأثيره مع الإرهاب التقليدي، ونحن نعيش في زمن الهويات القاتلة كما قال أمين معلوف، فالتقارب الاجتماعي بين دول العالم في الأزياء والأفكار، وفي القوالب والأطر التفسيرية، أصبح كبيراً جداً، وصار الناس أكثر ميلاً إلى قيم الاستهلاك المادية على حساب القيم الروحية، ما يعني أن التدخل ضروري، أحياناً، لضبط الحدود الفاصلة بين ما يجوز وما لا يجوز.

حالات الابتزاز الجنسي واستغلال الصور الشخصية المعدلة بالفوتوشوب، على منصات التواصل بشكلها العربي، تعبر عن مستوى التفسخ الأخلاقي والقيمي الذي وصلت إليه المجتمعات العربية، والأنظمة والتشريعات موجودة، وهناك جهات حكومية تقوم برصد المخالفات والجرائم الإلكترونية بدون بلاغات، ولكنها لا تنشط إلا في قضايا الرأي العام.

المفروض أن تعمل الدول العربية على اتخاذ موقف موحد لحظر المنصة الصينية، كما فعلت إندونيسيا وبنغلاديش والهند وباكستان، أو تطالبها بتعديل وضعها واعتماد سياسات خصوصية مشابهة للمعمول به في أميركا وكندا، وكذلك إيجاد صيغة لتفاهم حكومي محلي مع الحكومة الصينية، وبما يحقق إلزام مستخدمي تيك توك من المملكة بتقديم وثائق تؤكد أعمارهم وجنسياتهم، حتى يتم التعامل مع تجاوزاتهم، علاوة على إقرار مادة للمواطنة الرقمية في مراحل التعليم العام.


​​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة