دام عزك يا وطن

في اليوم الوطني التسعين، نقف وننظر إلى الوراء متأملين أعوامنا التي مضت، وبلادنا التي تطورت، وحياتنا كمواطنين سعوديين، ونتساءل: ترى ماذا حدث معنا؟ وماذا حدث لنا؟ ويحق لي القول إننا الدولة الوحيدة في العالم التي يحدث فيها شيئاً قد لا يوجد ما يشابهه في أي دولة أخرى، فنحن الدولة التي تسعى فيها القيادة لتأصيل حقوق وتطلعات المجتمع قبل أن يطالب بها.

كلنا يعلم أن شعوب العالم هي من تبادر وتطالب بحقوقها، وقد يُستجاب لهذه المطالب، وقد تُرفض. وأحياناً تدفع المجتمعات أثماناً باهظة مقابل تلك المطالبات المشروعة. أما نحن في المملكة فالعكس تماماً، فعلى سبيل المثال رفض أغلب الأهالي في الستينات الميلادية عن جهل، تعليم بناتهم، وبذل الملك فيصل-رحمه الله-جهوده لإقناعهم بأهمية تعليم البنات الذي لم يكن مقبولاً آنذاك؛ وانتهى به المطاف أن يأمر بفتح مدارس لتعليم البنات لمن يرغب في تعليم ابنته فليلحقها بالمدرسة، ومن لا يرغب فعليه أن يُبقِي ابنته في منزله فلن يجبره أحد على تعليمها. حيث إن دور الدولة هو إتاحة الفرصة للجميع وليس إجبارهم؛ ولذلك الهدف قدًم-رحمه الله-كل الوسائل والسبل كي يطمئن الأهالي. فالمدارس ستكون للطالبات وحدهن، والذي يقوم بتعليمهن معلمات، بل فعل ما هو أكثر من ذلك حيث أنشأ إدارة مستقلة سميت بالرئاسة العامة لتعليم البنات لتُعنى بتعليم البنات. وقد تم تشغيل مدرسة واحدة بثلاث طالبات فقط، ولكم أن تتخيلوا أن الطالبات كن ابنة أمير المنطقة، وابنة المعلمة، وابنة فراش المدرسة.

وحين أتذكر معارضة الأهالي لفتح مدارس تعليم البنات، أتساءل: ماذا لو استجاب الملك فيصل لمطالبهم وألغى فكرة تعليم البنات؟ هل ستصل المرأة السعودية بتأهيلها المعرفي العالي لما وصلت إليه حالياً، وبهذا الشكل الذي يضاهي أغلب نساء العالم في الدول المتقدمة؟ فلم يمر في تاريخ المجتمعات الإنسانية تغيرات حضارية كما حدث لدينا؛ بوجود جيل كامل متعلم يحصل الأبناء على شهادات الدراسات العليا من أرقي الجامعات العالمية، بينما أباءهم وأمهاتهم أميون (لا يجيدون القراءة والكتابة).

ولأن التاريخ يعيد نفسه؛ نتذكر أيضاً رفض بعض فئات المجتمع قيادة المرأة للسيارة، بل كانوا لا يقبلون مناقشة مبررات وإيجابيات السماح به. ليتخذ الملك سلمان وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان-يحفظهما الله-الخطوة التاريخية الشجاعة بإقرار السماح للمرأة بقيادة السيارة.

وقد تكون جائحة كورونا وتداعياتها، أكبر دليل على اهتمام القيادة وحرصها؛ حيث وجه ولاة الأمر-أيدهم الله-بتعليق الحضور لموظفي وموظفات الدولة لفترات زمنية طويلة برواتب كاملة، بل إن الدولة تكفلت بجزء كبير من رواتب موظفي القطاع الخاص الذين تضرروا من الإشكاليات الاقتصادية التي حدثت بسبب الجائحة.

وسأتحدث عن قصة جرت أحداثها أمامي، وأنا أدرس الدكتوراه في بريطانيا، ولأن دولتنا-أعزها الله-دعمت برامج الابتعاث للخارج كما لم تفعل أي دولة أخرى؛ فقد كانت أعدادنا أضعاف أعداد المبتعثين من أي دولة عربية أخرى، وكنا الأكثرية مقارنة بغيرنا. ذات مرة وحين كنا نُسلٍم الجزء النظري للسنه الثالثة كان أحد الزملاء العرب متذمراً لأنه لم يتمكن من تسليم الجزء المطلوب منه في الوقت المحدد، فلامه بعض زملاءنا السعوديين بقولهم: "لقد كان لديك متسع من الوقت لتقوم بذلك". فرد عليهم: "أنا لست سعودياً مدللاً من دولتي مثلكم للدرجة التي تجعلني لا أحتاج للعمل؛ فالوقت الذي أقضيه في العمل لتأمين متطلبات الحياة طويل جد، ولذلك فالوقت المتبقي غير كافٍ بالنسبة لي لتأدية متطلبات دراستي كما ينبغي أن يكون".

لقد وصلنا بفضل الله ثم بفضل القيادة الحكيمة، ووعيها المتقدم، وحرصها على كل ما يحقق مصالح المجتمع، ويدفعه ليكون متطوراً، إلى أن يتمتع معظم أفراد المجتمع بأعلى مستوى من التعليم، وبكافة الحقوق بمختلف أنواعها ومستوياتها، واستطاعت الدولة-أعزها الله-أن تحقق المعادلة الصعبة في الموازنة بين الحفاظ على دورها في حماية المقدسات الإسلامية، وتحقيق المستوى المتميز في منح الحريات والانفتاح الذي من شأنه أن يجعل التاريخ يكتب أننا المجتمع الذي مَنً الله عليه بقيادة تراعيه كأول وأهم الأولويات التنموية بالنسبة لها.

هذا غيض من فيض. فكل ما يحدث حولنا يجعلنا نحمد الله أننا ننتمي لهذه الدولة العظيمة بقيادتها الفذة التي منحتنا فوق ما نريد وأكثر مما نطلب. ودام عزك يا وطن.

 

​​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة