في القطاع العام تُعتبر الشفافية جزءًا أساسيًا من الحكم الرشيد، فمن خلال تبادل المعلومات يتكون لدى الجميع دراية بما تم اتخاذه من قرارات وأبرز التطورات والتحديات. وتأخذ الشفافية أشكالًا عدة، مثل نشر البيانات الحكومية والقرارات المالية والسياسية للعامة. لذا تُعد الشفافية إحدى الركائز الأساسية لتحقيق الثقة بين الأفراد والمؤسسات، كما أنها تُعد وسيلة لتعزيز المسؤولية والمساءلة. إضافة إلى أنها تعمل على تعزيز الفعالية والكفاءة؛ فعندما تكون العمليات والقرارات شفافة، يصبح من السهل إجراء دراسات تحليلية شامله تقوم على تحديد الفرص والتحديات، ومن خلال نتائج عدد من الدراسات يمكن اتخاذ قرارات رشيدة تحسِّن الأداء العام للمنظمات. وانطلاقًا من إدراك المملكة أهمية الشفافية؛ أطلقت حزمة من المبادرات والبرامج لتعزيز هذه الشفافية في القطاع العام، مثل إصدار تقارير دورية عن أداء المنظمات، وكذلك بوابة البيانات المفتوحة ونظام حرية المعلومات ونظام الوثائق والمعلومات ونظام الرقابة ومكافحة الفساد.
الأهمية
إن الشفافية تضع الحكومة والأجهزة الإدارية العامة في صندوق من زجاج، بحيث يرى الجميع بوضوح ما تقوم به من أعمال، وما تباشره من مهمات، وما تديره من برامج، وترتبط به من علاقات، والكيفية التي تمارس فيها ذلك. ويمكن كذلك القول إن الشفافية هي العمليات الإدارية التي تمنح الجميع الفرصة الكافية للاطلاع على المعلومات العامة أو القرارات العامة، ويشمل ذلك مبررات اتخاذها والجهات المسؤولة عنها والنتائج المترتبة عليها.
5 مبادئ
وعند النظر للأدبيات يمكن تلخيص أبرز مبادئ الشفافية في خمسة مبادئ، كالتالي:
(1)يجدر بالشفافية أن تكون مدعومة بإطار قانوني، مثل نظام حرية المعلومات، ونظام الوثائق لتحقيق الشرعية في نشر المعلومات.
(2)كذلك ترتبط الشفافية بالعلنية عند النشر، من خلال قنوات التواصل التقليدية والتقنية؛ حتى يتمكن الجميع من الدراية بما قد صدر من معلومات.
(3)الشفافية-أيضاً-تتعلق بمدى السهولة في الوصول للمعلومة في وقت قصير ودون جهد يذكر.
(4)الشفافية لا تتحقق بدون الدقة والوضوح، حيث إن الضبابية تحول دون الاستفادة التامة بما يصدر من بيانات ومعلومات.
(5)ترتبط الشفافية ببعض القيم التي تختص بالنزاهة، مثل الالتزام، والصدق، والأمانة، والمسؤولية، فحين تغيب هذه الثقافة يقل العمل بالشفافية.
ومن خلال الالتزام بهذه المبادئ يمكن تمكين العمل بالشفافية بفاعلية حقيقية لكن هنالك تضل بعض من الصراعات التي تحيد من الارتقاء بمستويات الشفافية في القطاع العام.
صراعات الشفافية
وتعد الشفافية مفهوماً نسبياً؛ لذا لا يوجد اتفاق حول مدى ما يمكن الإفصاح عنه من المعلومات والبيانات، وهذا يجعل الشفافية دائماً في صراع مستمر مع إرث السرية المتجذر في أجهزة القطاع العام. فأحد أشكال هذه الصراعات يصدر من الرغبة الملحة من المنظمات بالظهور بشكل إيجابي خوفاً من المساءلة، حيث يلجأ الكثير من القياديين إلى الانتقاء في المعلومات والتحيز للإيجابية منها وتقليل الموضوعية. ومن الصراعات الأخرى، ما يصدر من شح المعلومات المنشورة والذي تتنوع أسبابه، والتي من أهمها انعدام التعاون السريع بين الإدارات والوحدات، حيث الكثير من المعلومات تعد أصولاً ومصدر قوة لبعض الإدارات لذا يصعب مشاركتها. كذلك من شأن بعض القوانين المستحدثة، تمكين الشفافية أن تتعارض مع القوانين التي تدعم السرية، مثل نظام حرية المعلومات ونظام حماية البيانات، وهذا من شأنه أن يجعل الشفافية تحت تصرف القياديين وتفسيراتهم في الإفصاح. يضاف إلى ما سبق أن المعلومات دائمًا ما تكون عرضة للتفسير السلبي أو الإيجابي، وهذا يجعل من الشفافية سلاحًا ذا حدين، حيث إن المبالغة في الإفصاح قد تؤدي إلى إثارة الرأي العام وغضب الشارع. لذلك يجدر النظر لبعض النقاط العملية التي تمكن من تحقيق التوازن في استخدام الشفافية وتجنب الصدامات والتحديات.
تحقيق التوازن
الشفافية مبدأ معقد التطبيق وصعب الاتفاق عليه، لكن من أجل تحقيق الفعّالية والتوازن في الشفافية، يجدر بالمنظمات اتباع بعض من التطبيقات والإجراءات الإدارية، منها:
•تصنيف حساسية المعلومات: فمن المهم أن تحدد المنظمات أنواع المعلومات التي يمكن الكشف عنها وتلك التي يجب أن تظل سرية؛ لتحقيق التوازن بين الشفافية وحماية المصالح الحيوية. بحيث ترسم المنظمة الحدود وتضع السياسات المتخصصة فيما هو متاح للإفصاح بشكل آني وما هو يحب أن يدرس ويبحث. والآن بدأنا نرى انتشار إدارات حوكمة البيانات، والتي تعمل على تحديد معايير الشفافية بالاتفاق مع الوحدات الإدارية، ثم تعمل على تصنيف مستويات السرية للمعلومات.
•تعزيز ثقافة الشفافية: من الضروري تثقيف الأفراد حول أهمية الشفافية الصادقة وعدم استغلالها لتجميل الصورة العامة أو التلاعب بالرأي العام. ويجدر إيضاح الحاجة الملحة لنشر المعلومات فهي الممكِّن الرئيسي للقرارات المستنيرة المدعومة بالحقائق والبيانات. كذلك يجدر بالمنظمات تعزيز بعض الأخلاقيات، مثل الصدق، والمسؤولية، والالتزام، والتي من شأنها تشجيع الإفصاح دون تحيز.
•تأكيد الاستمرارية: تستلزم الشفافية الالتزام المتواصل والدائم بنشر المعلومات بوضوح ودقة وبأسرع وقت ممكن؛ حتى تتحقق الفائدة من المعلومة بفعالية. فالشفافية ليست مجرد بادرة أو إجراء يُتخذ لفترة قصيرة أو استجابة لأزمة معينة؛ بل هي فلسفة ومنهجية يجب أن تكون متجذرة في سياسات وثقافة المؤسسات، إذ إن الشفافية المستمرة تعزز من العلاقات طويلة الأمد وتبني إرثًا معرفيًا حول أداء المنظمات وأثرها على المجتمع. ولعل من أبرز الممكنات للاستدامة والاستمرارية هو استخدام التكنولوجيا، مثل البيانات المفتوحة، وشبكات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى إدراج مؤشرات قياس خاصة تقوم على متابعة الشفافية.
استراتيجيات
وفي الختام، يجب التأكيد أن الشفافية تُعد عنصرًا محوريًا لتحقيق التطور في القطاع العام، إذ إنها المكون الأول للمساءلة والرقابة. ومع ذلك، فإن الشفافية دائماً في صراع مستمر مع السرية؛ لذا يجدر الأخذ ببعض الاستراتيجيات التي من شأنها أن تقلل من الصراعات وتخلق التوازن المطلوب. ويمكن اختصار هذه الاستراتيجيات في إيجاد الإطار التنظيمي الذي يصنف المعلومات قبل نشرها وتعزيز الثقافة حول أهمية الشفافية بين أفراد المنظمة لضمان تداولها بشكل سريع، وضمان أن تكون الشفافية جزءًا من الأعمال الدائمة، وتجدر الإشارة إلى أن تبني التقنيات الحديثة يلعب دورًا مهمًا في تعزيز الشفافية. كما أن الشفافية ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة لتعزيز الاستدامة في التميز المؤسسي وتحقيق التنمية المستدامة. فمن خلال العمل المتواصل والاستثمار في الشفافية، يمكن للمؤسسات تحقيق تقدم حقيقي وملموس نحو بيئة أكثر انفتاحًا وتفاعلاً، وبناء مجتمع قائم على تبادل المعلومات والابتكار.