هناك موجة أستطيع تسميتها-تجاوزاً- بالعارمة تجاه برامج الإدارة والقيادة، الإقبال موجود والأمر ليس سلبياً في مطلقه. فمثل أي مجال يكثر فيه المعروض ويتوفر الطلب، ينشأ الجيد وما هو دون ذلك. يجتهد القائمون على تلك البرامج -محلية أو أجنبية- في تقديم الأفضل، ورغم ذلك يأتي التساؤل؛ رغم كل هذه الشهادات والدورات نشتكي من تواضع القيادة الإدارية ببعض المنظمات، لماذا؟
الحلقة المفقودة هنا تكمن في البعد الثقافي، كما يبدو لي.
الثقافة وفق تعريف عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي «غبرتز»، هي «إطار المعتقدات والرموز التعبيرية والقيم التي يحدد الأفراد من خلالها مشاعرهم ويصدرون أحكامهم». والأمر هنا ينطبق على القادة وقدرتهم على فهم ونقد وتحييد الأبعاد الثقافية الموروثة والمكتسبة التي تحكم قراراتهم. بكل أسف لدينا حساسية في نقد ثقافتنا وأثرها في سلوكياتنا الحياتية والثقافية والإدارية. تطرقت لبعض ذلك في مقالات سابقة وفي آخر مؤلفاتي «حكايات على الخشم»، الحكايات التي تحاول شرح العلاقة بين الخلفية الثقافية والمهنية للقادة وعلاقتها بصنع القرار الإداري!
تعلمنا الدورات وبيوت الخبرة الإدارية كتابة خطة استراتيجية واضحة للمنظمة، وأغلب المنظمات تدون في خططها أن هدفها الأول خدمة طلابها/ مرضاها/ عملاءها، إلخ. لكن عندما يتصرف القائد وفق ثقافته الشعبية المتوارثة التي ترى مجلس الضيوف هو الأهم في المنزل، نجده يهتم بديكور مكتبه والمبنى الإداري على حساب المكونات الأخرى الأهم في المنظومة، في تناقض صارخ مع استراتيجيته. أي أن الثقافة الشعبية أو الموروثة تبتلع استراتيجية المنظمة. لذا نقول «ليس المهم كتابة الاستراتيجية مزخرفة بالألوان والجداول، بل صمودها أثناء الممارسة أمام النسق الثقافي والفكري السائد...». القائد الذي لا يعي العلل الثقافية، ستقوده عاطفته وما تمليه عليه تلقائيته أو ثقافته الموروثة عند اتخاذ القرارات. الانحياز نحو القبيلة أو زملاء المهنة أو الفئة التي ينتمي لها الإنسان أمر تلقائي تعززه ثقافة «القريب أولى» و «من لا يخدم ربعه لا خير فيه»، وما يرادفها من مفاهيم ثقافية.
القائد الذي يعتقد أن المنصب الإداري سُلطة، يتجه إلى قمع أي رأي مخالف، ويعتقد أن الرأي الآخر ينتقص من سلطته ومقامه، للدرجة التي تحارب الحقائق وقائليها.
القائد الذي لم يكن في ثقافته وأجداده مفهوم للمال العام لن يستحي من سلب المال العام أو تسخيره له والمقربين منه. تلك علل ثقافية وفي الإدارة نطالب بالوعي تجاهها والحذر من سيطرتها بوعي أو بدون وعي عند صنع القرار.
«لكي تكون قائداً ناجحا عليك التخلي عن عقل القبيلة» والقبيلة هنا ترمز للفئوية أياً كانت؛ قبلية، مهنية، طائفية، مناطقية، إلخ».
دراسة وحفظ أخلاقيات العمل أو المهنة أو الإدارة لا يكفي مالم ينعكس في السلوك والتصرفات.
ثلاثة عقود من الزمن قضيتها في وظائف متعددة، وصلت إلى قناعة بأن البعد الثقافي يمثل السبب الأول لنجاح أو فشل القادة الذي عملت معهم، سواء في طغيان موروثاتهم الثقافية المؤثرة في صنع القرار أو في تربيتهم وسماتهم الشخصية الثقافية والأخلاقية من بخل وكرم وتسامح وقسوة ولؤم وفساد وصلاح وغيره.
الثقافة تبرزها السلوكيات وليس الادعاءات، وتبرزها البيئة/ الأثر الثقافي داخل المنظمة من صدق وتسامح وعدل وتعاون ومحبة، وغيرها من قيم. ومؤلم توهم بعض القادة بأنه الخبير والمثقف والمميز بسبب صمت من حوله وعدم نقاشهم له خشية سلطته أو تسلطه..