هل المحاماة مهنة أم تجارة؟


هل المحاماة مهنة أم تجارة؟

​أُثير هذا السؤال بصورة متكررة في الميادين القانونية في السنوات الأخيرة، خاصةً بعد اتساع مجال التجارة التي احتلت أغلبية جوانب الأنشطة الإنسانية بما فيها الأنشطة المتعلقة بالشق المدني؛ مما أدّى إلى الخلط بين مفهوم المحاماة كمهنة والتجارة كمهنة أخرى. ولقد أسهم هذا الخلط بفعالية في تكوين صورة نمطية غير عادلة حول مهنة المحاماة؛ حيث يعتقد البعض أن المحامي تاجر يحمل في يده حقيبة قانونية للمتاجرة بقضايا البشر من أجل تحقيق أرباح مالية، وأنَّ رأس ماله هو معرفته بالمعاملات الشرعية والأنظمة وإجراءاتها، مُختزلين جُهد المحامي من تقديم الاستشارات القانونية أو الشرعية أو خدمات التقاضي في صورة سلعة تجارية يُمكن شراؤها أو بيعها في السوق.

إنَّ تصوُّر مهنة المحاماة بهذا النمط يضع مبادئها وقيمها ومعاييرها على المحك ويُفقدها الرسالة السامية، والغاية النبيلة التي تتميز بها عن المهن الأخرى، كالدفاع عن حقوق الغير، وتقديم الاستشارات، ومعاونة القضاة في إيصال الحق لأهله. ولذلك فإن مهنة المحاماة تختلف عن مهنة التجارة التي تهدف إلى تحقيق الربح بشكل أساسي دون النظر إلى معايير أخرى، فضلاً عن أنها لا تتطلب في ممارستها التأهيل العلمي والعملي. هناك عاملان أساسيان أسهما بشكل مباشر في تكوين الاعتقاد "المحامي تاجر وما يمارسه تجارة"، وهما:

العامل الأول: سوء تصرفات بعض المحامين واستغلالهم بعض قضايا البشر في تحقيق أرباح مبالغ فيها.

العامل الثاني: قلة معرفة العامة بالفروقات الجوهرية التي تميز شخصية التاجر عن المحامي والأنظمة التي يخضع لها كل منهما، ولا سيما طبيعة عملهما والتزاماتهما اتجاه الحكومة والغير من حيث الجوانب القانونية والإجرائية.

وحتى تتضح الصورة أكثر عن سوء تصرفات بعض المحامين واستغلالهم للمواقف؛ نورد بعض الأمثلة، فمثلاً عند تقديم الاستشارات يتقاضى المحامي مبلغ 5 آلاف ريال للساعة الواحدة، بينما في الواقع الاستشارة لا تستحق ذلك، أو قرار تبنّي قضية ما من عدمها يعتمد على الجوانب المالية أكثر من الجوانب الحقوقية، أو رفض استقبال قضايا الأحوال الشخصية من طلاق أو حضانة أو ما شابه ذلك؛ بحجة أن ليس فيها مردود مادي مجزٍ. وفي جميع الأحوال هذه التصرفات فردية لا تُغيّر من جوهر المحاماة كونها مهنة مدنية، وإن حقق البعض منها مكاسب مادية باهظة؛ لأن غاية المحامي ونيته لا تُكفي لتصنيف عمله بأنه تجاري أو مدني، بل لا بد أن يقترن ذلك بعوامل أخرى مساعدة منها: الحصول على سجل تجاري، ومسك الدفاتر التجارية، وخضوع المحامي لقواعد القانون التجاري، ومعاملته معاملة التجار في جميع النواحي. وبالتالي يمكن سؤال المحامي عن إخلاله بأداء واجباته المهنية أمام الغير مسؤولية شخصية مدنية؛ لأن هناك أخلاقيات لا بد أن يتحلى بها المحامي بحكم أنه صاحب رسالة وقدوة للمجتمع، وتقصيره في أداء واجباته أو استغلاله الغير بما قد يؤثر على المراكز القانونية والغاية الأساسية من وجود هذه المهنة. وقد أكَّدت أنظمة المملكة العربية السعودية المرتبطة بنظام المحاماة والشركات المهنية صراحةً وضمناً على أن المحاماة مهنة قانونية مدنية وليست مهنة تجارية في العديد من المواد، وأنَّ ما يتقاضاه المحامي مقابل خدماته يندرج تحت الأتعاب وليس الأرباح.

وهنا قد يتبادر إلى ذهن القارئ سؤال: "أليست مهنة المحاماة مربحة من الناحية العملية وبالتالي فهي تجارة؟"، فالربح المادي ليس هو المعيار الوحيد في التفرقة بين الأعمال المدنية والأعمال التجارية؛ فهناك معايير أخرى  للتفرقة بينهما، فمثلاً المبدأ القانوني الذي يُسمى بمبدأ "المعيار الشخصي" ويُقصد به عدم قابلية انتقال التزامات الفرد المهنية-كالمحامي مثلا في عقد المحاماة-بعد وفاته إلى الورثة؛ لأنه من العقود القائمة على الاعتبار الشخصي، بينما التزامات التاجر المتوفى يُمكن أداءها من قبل الورثة في حدود الديون المالية أو العقود التي أبرمها قبل حدوث حالة الوفاة مع إمكانية الاستمرار في التجارة؛ لأن شخصية التاجر هنا ليست جوهرية حين التعاقد.

خلاصة القول: إن المحاماة مهنة مدنية كمهنة الطب والهندسة، وليست تجارية محصورة على التجار الذين يتخذون التجارة مهنةً لهم؛ وبالتالي يخضعون لقواعد وأنظمة تجارية تختلف عن تلك التي يخضع لها أصحاب المهن المدنية.

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة