تعاونيات الإنتاج .. فريضة تنموية غائبة

​​في المجتمعات الحديثة، يقوم النشاط الاقتصادي على قواعد أصولية ثلاثة: الأولى هي قاعدة الإنتاج، والثانية هي قاعدة التوزيع، أما قاعدته الثالثة فهي الاستهلاك. ولقد فطنت أغلب المجتمعات الحديثة للدور الذي يلعبه "التعاون" في تطوير القواعد الثلاثة للنشاط الاقتصادي، وفي مكافحة ظاهرة الاحتكار ومشكلة هدر الموارد النادرة. وفي هذا المقال نسلط الضوء على أهمية الفكر التعاوني، وتوضيح الدور التنموي الذي يمكن للجمعيات التعاونية أن تنهض به في البلدان العربية، وإثبات أن التعاونيات-وخصوصا التعاون في أنشطة الإنتاج-هي أحد الفرائض التنموية التي لا ينبغي لها أن تغيب عن اقتصادات هذه البلدان.

إن "التعاون" أو "التشارك"-سمه ما شئت-يقصد به كل الإجراءات التي تجمع وتنسق بين الأنشطة الإنسانية المختلفة؛ بهدف تقليل تكاليفها وزيادة منافعها، وكسر الاحتكارات التي قد تنشأ في هذه الأنشطة. وبطبيعة الحال لا يختلف تعريف التعاون في الأنشطة الاقتصادية عن هذا المفهوم الواسع للتعاون. فالتعاون في نشاط الإنتاج يعني تضافر الجهود بين المنتجين؛ لزيادة العوائد المنتظرة من العملية الإنتاجية، وتقليل التكاليف المترتبة عليها. وبذات المنطق، يمكن تعريف التعاون في أنشطة التوزيع والاستهلاك بأنه يمثل عمليات التنسيق بين الموزعين والمستهلكين في الأسواق المختلفة؛ لزيادة أرباح التوزيع، ولزيادة منافع الاستهلاك.

وبالرغم من كون الأنشطة التعاونية قديمة قدم النشاط الإنساني ذاته؛ إلا أن الأهمية التنظيمية لها في النشاط الاقتصادي لم تظهر بوضوح إلا في منتصف القرن التاسع عشر تقريبا. ففي تلك الفترة حققت "تعاونيات الاستهلاك" شهرة كبيرة في الدول الأوروبية المتقدمة. فها هي جمعية "رواد روتشدل" الاستهلاكية تحقق نجاحاً باهراً في قطاع أسواق التجزئة بإنجلترا، وتكون نواة أولى لانتشار التعاونيات في كافة أنشطة الاستهلاك فيها. وها هي تعاونيات "رافيزن" تساهم في النمو السريع لقطاع الزراعة الألماني، بعدما كفته عناء البحث عن التمويل والائتمان المصرفي، وبعدما أتاحت له التمويل التنافسي منخفض التكلفة. وعلى الشاطئ الآخر من الأطلنطي، حققت الجمعيات التعاونية بالولايات المتحدة الأمريكية طفرة في أنشطة التوزيع والاستهلاك في الأسواق، وأصبحت الأنشطة التعاونية الأمريكية تولد، رويداً رويداً، جزءاً متزايداً من الدخل الوطني الامريكي.

وبينما تشير التجربة التعاونية العالمية إلى أن النمو في أنشطة التعاون يسير-جنبا إلى جنب-مع النمو الاقتصادي في أغلب الدول التي انتشرت فيها أنشطة الجمعيات التعاونية؛ فإن واقع التعاون-وخصوصا تعاونيات الإنتاج-في البلدان العربية يؤكد على أنها بحاجه لمزيد من الدعم والتطوير؛ لكي تواكب واقعها في البلدان المتقدمة اقتصادياً وتعاونياً.

على أن تطوير تعاونيات الإنتاج ليس هدفاً اقتصادياً في حد ذاته؛ بل هو وسيلة ضرورية لتحقيق هدف سامٍ، وهو الارتقاء بالمقومات المحلية للنمو الاقتصادي. ولنأخذ مثالاً على ذلك، كأنشطة التعاون الإنتاجي في قطاع الزراعة: فمن خلال التعاون بين المنتجين الزراعيين المحليين في مراحل الإنتاج المختلفة، يمكن لقطاع الزراعة أن يحقق ازدهاراً ملموساً في ناتجه السنوي؛ لكون تعاونيات الإنتاج الزراعي تفيد في أمور خمسة:

أولها: ضمان الحد الأعلى من التكامل بين أنشطة المزارعين من أعضاء الجمعيات الزراعية عند الولوج في الموسم الزراعي، وضمان الحد الأدنى من التشتت والتعارض في الزراعات المختلفة. ففي حالة وجود جمعيات زراعية تنسق بين المنتجين، فلن تجد مثلا تكدسا في زراعة معينة، وندرة في زراعة أخرى. ولن تجد عجزاً في موارد الماء هنا ووفرة في البذور الزراعية هناك. ومن شأن هذا التنسيق أن يضمن المحافظة على أسعار المحاصيل الزراعية، والمحافظة على المستويات الموضوعية لأرباح المنتجين الزراعيين.

وثانيها: المساعدة في تخفيض التكاليف الكلية للإنتاج الزراعي. فالتعاون داخل الجمعيات الزراعية في استخدام بعض عناصر الإنتاج، والتي تسمح طبيعتها بالمشاركة (حالة الآلات والمعدات الزراعية تحديدا)؛ سيخفض من تكاليف التشغيل الإجمالية في كل وحدة زراعية من وحدات الجمعية التعاونية.

ثم ثالثها: تخفيض تكاليف النقل والتسويق، والتي تشكل عبئاً رئيساً على كاهل المزارع الوحدوية؛ ذلك لأن قيام الجمعية التعاونية الزراعية نيابة عن أعضائها بأنشطة النقل سيعود بالنفع المباشر على إيرادات الجمعية وأعضاؤها، وسيكسر من الاحتكارات القائمة في أنشطة النقل الزراعي، وخصوصا النقل الزراعي المبُرد. وإذا علمنا أن أنشطة النقل الزراعي يمكنها أن تلتهم جانباً هاماً من فائض القيمة المولد في الأنشطة الزراعية؛ فيمكننا أن نتوقع الأثر الطيب للتعاون الزراعي في أنشطة النقل على التكاليف والارباح.

رابعها: وتأسيسا على النقطة السابقة، فإن التعاون في أنشطة النقل الزراعي لن يفيد في تقليل التكلفة الاجمالية فحسب؛ بل سيساهم مباشرة في الاقتراب من الأسواق الزراعية. وهي ميزة للقطاع الزراعي في الدول العربية الصحراوية، هو في أشد الحاجة اليها.

وخامسها: توليد أنواع جديدة من الإيرادات الزراعية. وللتدليل على ذلك، دعنا نضرب مثالاً بأنشطة تدوير المخلفات الزراعية؛ فبتولي الجمعية الزراعية القيام بأنشطة التدوير للمخلفات الصلبة مثلاً؛ ترتقي إيرادات الجمعية، وتتحسن الدورة الزراعية الكلية، وتتطور البيئة الزراعية الكلية في الزمام الجغرافي لهذه الجمعية الزراعية.

وإذا ما عُممت الجمعيات الزراعية؛ فمن شأن هذه الفوائد الخمسة مجتمعة أن تزيد من الإيرادات الكلية للقطاع الزراعي، وتقلل-مع مضي الوقت-من الأعباء المالية وغير المالية التي يعاني منها المنتجون الزراعيون. وكل ذلك سيزيد-آنيا-من كفاءة قطاع الزراعة المحلي، ويقلل من العجز المزمن في الميزان الزراعي في الدول العربية الصحراوية، وشبه الصحراوية.

وما قولناه في تعاونيات الإنتاج الزراعي، يمكن أن نقول مثله في باقي الأنشطة الإنتاجية في الاقتصاد الوطني؛ فالتعاون الإنتاجي وفق هذا المنظور يفيد في تحقيق التكامل الاقتصادي داخل كل قطاع اقتصادي محلي على حده، فضلاً عن دعمه التنسيق فيما بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، ودون أن يولد الاحتكارات التي تعيق النمو وتقيده.

وعلى هدي من التحليل السابق، وفي ضوء الدروس المستفادة من التجربة الدولية، والتي تؤكد أبرزها على أن النشاط التعاوني لا ينمو من تلقاء نفسه؛ فإننا نعتقد أن القطاع الحكومي عليه أن يتحمل المسئولية المنوطة به في دعم وتشجيع أنشطة التعاون الإنتاجي. وفي سبيل ذلك، فإن السياسة الاقتصادية الواعية مدعوة لتحفيز المنتجين في القطاعات الاقتصادية المستهدفة بأنشطة التعاون-وخصوصا القطاع الزراعي-لتأسيس الجمعيات الزراعية، وتوفير إطار تنظيمي لحماية أعضاء الجمعيات. وقبل ذلك، مُطالبة بتطوير التشريعات الضرورية لترقية النظام التعاوني الوطني، وتعزيز دور الرقابة المالية على أنشطتها؛ كي نضمن بذلك تحقيقها الأهداف التنموية التي أُنشأت من أجلها. وليتنا في ذلك نتعلم من الشعار التعاوني الألماني الذي يقول: "ما لا يقدر عليه فرد وحيد، تقدر عليه المجموعة"!

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة