ما بعد "كورونا"..العمل عن بُعد واختفاء المكاتب فرضيات جديدة تتبناها المنظمات الدولية

​ألقت التحولات الكبيرة التي شهدها العالم بسبب تفشي فيروس كورونا المستجد "كوفيد - 19" بظلالها على كافة أوجه النشاط الإنساني، ومظاهر الحياة والعمل، وسرًعت من توظيف التكنولوجيا في كافة أوجه التعاملات البشرية؛ مما طور طرق وآليات العمل عن بعد. وأصبح معظم العاملين-كما تشير التقارير المتخصصة-يؤدون أعمالهم من منازلهم، ولا يذهبون إلى مقار أعمالهم "المكاتب". ويدعم هذا التوجه أن كثيراً من المنظمات، والشركات، والبنوك الدولية بدأت حالياً في تشجيع العمل عن بعد، وخلق نماذج جديدة من الوظائف والآليات المبتكرة. وأمام هذا الواقع الجديد، تثار العديد من التساؤلات بشأن المستقبل الذي ينتظر أسواق وآليات العمل.

الوضع الجديد

وفي الإطار ذاته نفذت قناة "سي إن بي سي" الإخبارية الأمريكية، استبياناً لتقصي رأي عدد من كبار مديري الشركات، والبنوك حول العالم عن طرق العمل الجديدة بعد كورونا، وخرجت النتائج جميعها لتؤكد على أن "العمل عن بُعد" قد يكون هو الوضع الطبيعي الجديد لكثير من الموظفين والمديرين، وكذلك المراجعين. كما أن شركات كبرى، مثل "مونديليز"، و"نيشن-وايد"، وبنوكاً عالمية، مثل "مورغان ستانلي"، و"باركليز"، تفكر جديًّا في انتقال دائم للعمل عن بعد؛ لما لذلك من إيجابيات، كتقليص مساحات المكاتب، وتقليل الكثير من المصروفات المالية.

دائرة العمال

وقدرت منظمة العمل الدولية عدد الذين يمكن أن يتحولوا إلى عاطلين جدد بسبب الإجراءات الاحترازية لمحاصرة فيروس كورونا عالميًّا بنحو 25 مليون شخص. وتقول المنظمة إن هذه الأزمة قد تُفقد العالم إجمالي ساعات عمل تعادل نحو 160 مليون وظيفة بدوام كامل، وتغير من مستقبل العمل في المجتمعات كافة.

مستقبل الوظائف

ويوضح عضو هيئة التدريس وأستاذ المحاسبة في جامعة الملك عبد العزيز بجدة د.سالم باعجاجة، أن العمل عن بعد وعن طريق الإنترنت أصبح خياراً للكثير من طالبي العمل، خصوصاً بعد التدريب العملي الذي أخذه البعض بالعمل "أون لاين"، كما أن جودة العمل من المنزل كانت مرتفعة والإنتاج عالٍ، وربما تكون هي وظائف المستقبل بعد جائحة كورونا التي غيرت طرف العمل المعتادة.

ويضيف: "إن الأزمة تركت الناس يفكرون في البرامج التي تكفل إدارة الحياة اليومية، وكثير من الوظائف المكتبية أجبر على أدائها من المنزل".

ويشير إلى أن أزمة كورونا كشفت جوانب أخرى لأداء العمل، والعمل عن بعد من المنزل هو الوضع الطبيعي الجديد، حتى أنه أصبح تفكير كثيراً من الشركات والمؤسسات في هذا الاتجاه؛ لذا ستعيد الأزمة الحالية تشكيل منظومة أسواق العمل حول العالم إما بتغيير النمط التقليدي أو توليد وظائف جديدة يتم فيها توزيع الفرص بشكل عادل. مع أن باحثين يتوقعون اختفاء مئات الوظائف، وبقاء الكثير من مكاتب العمل مهجورة؛ إذ إنه يمكن العمل من المنزل وبجودة عالية، خصوصاً أن العاملين في تلك الوظائف تأقلموا مع الشكل الجديد للأعمال.

اختلافات كثيرة

أما كبير الاقتصاديين في مؤسسة "غلاسدور" الأمريكية المتخصصة في مجال التوظيف والبحوث الاقتصادية، د.أندرو تشامبرلين، فيقول: "قبل تفشي فيروس كورونا كانت سوق العمل مزدحمة، وطلبات التوظيف مرتفعة؛ أما اليوم فيعمل ملايين الأشخاص من المنزل بسبب قيود كورونا، ولا أتوقع أن يستمر ذلك لفترة طويلة فلا يزال هناك كثير من السلبيات للعمل من المنزل".

ويضيف: "أعتقد أن طرق التوظيف ستختلف كثيراً بعد انتهاء أزمة كورونا؛ حيث ستكون هناك مرونة أكثر في ساعات العمل، وسيلتزم أصحاب العمل بتوفير تأمين صحي كبير لموظفيهم، كما أتوقع ارتفاع معدلات التوظيف خارج المدن الكبيرة؛ حيث إن الرواتب خارج هذه المدن ستكون أقل كثيراً من الرواتب داخلها".

ويشير إلى أن سلوك الموظفين الشباب سيختلف كثيراً أيضاً بعد هذه الأزمة؛ حيث سيصبحون أكثر ميلاً للبحث عن عمل مستقر، وإدارة حياتهم اليومية. فحجم الوظائف المليونية المفقودة يُثير المخاوف من أن تكون طرق العمل المعتادة في طريقها إلى الاختفاء، كما تنبأ كثيرون بذلك من قبل، وإن كان بوسائل أخرى. كما أن من سيبقون في أعمالهم سيصبح لديهم التساؤل حول الأسلوب الذين يؤدون به هذه الأعمال في المستقبل.

رؤية استشرافية

وفي السياق ذاته يقول المتخصص في الموارد البشرية، أ.عبود بن علي آل زاحم: "إن ملامح المستقبل لبيئة العمل بعد أزمة فيروس كورونا المستجد كوفيد 19، تشير إلى تغير كبير، لا سيما في ظل التوقعات المتشائمة بإلغاء 6.7٪؜ من إجمالي ساعات العمل في العالم خلال النصف الثاني من العام الجاري، وهو ما يعادل 195 مليون وظيفة بدوام كامل".

ويؤكد على أن القطاعات الأكثر عرضة للخطر هي خدمات الإقامة، والطعام، والسفر، والصناعات التحويلية، وتجارة التجزئة، وأنشطة الأعمال والأنشطة الإدارية. ويرجٍح أن تتجه المنظمات بسرعة إلى استخدام منصات العمل الإلكترونية المشترك التي تضمن تواصلاً فعالاً وسريعاً، مع تقبُّل القادة فكرة أنهم لا يملكون الأفكار الناجحة دائماً؛ لذا سيتوجه تركيزهم نحو خلق بيئة عمل تسمح للأفكار الجديدة بالظهور باستمرار.

ويوضح آل زاحم أن التقنيات الرقمية ستؤدي إلى طمس حدود الشركات. كما سيكون المستقبل للذكاء الاصطناعي وإحلال الروبوتات مكان البشر؛ مما يستدعي الدول لإنشاء وزارات أو هيئات للذكاء الاصطناعي مع تخصيص ميزانيات ضخمة لها، إلى جانب النظر في مدى ملاءمة القوانين الحالية، والأنظمة الإدارية لتطورات الذكاء الاصطناعي.

ويشير إلى أنه وعلى صعيد الأصول المؤسسية، ستوجب سياسات ترشيد الإنفاق التي تنتهجها الحكومات التخلي عن المباني التي تقوم بتأجيرها الجهات الحكومية، وتوجيه تلك الجهات إلى بناء شراكة مع القطاع الخاص لاستثمار أصولها، ويسهم هذا التحول نحو توجيه الاستثمار إلى التطوير المؤسسي. ومن المتوقع أن تحظى الموضوعات المرتبطة بإدارة المخاطر الإنسانية، ومنها نظافة بيئة العمل، والصحة العامة، والتباعد الاجتماعي والصحي بمقرات العمل باهتمام كبير، فضلاً عن تعزيز التشريعات المرتبطة بتلك الأبعاد. أما على صعيد الهيكل التنظيمي، فمن المرجح تقليص وظائف الإدارة الوسطى، ونقل مهامها إلى الوظائف القيادية والتنفيذية. كما أن التكليفات في العمل ستكون واضحةً ومحددة، وبسيطة وعمليات المتابعة والرقابة أفضل. ومن المتوقع كذلك أن تقوى العلاقات الشخصية بين العاملين؛ بسبب بُعدهم فترات عن بعض، وعملهم من المنزل أو لقلة لقائهم الشخصي. وستكون المرونة والسرعة هي كلمة السر في بيئات العمل، بحيث سيتم الاستفادة من الأجيال المتنوعة والاستعداد للتعامل مع المزيد من الموظفين المستقلين، وجعل مكان العمل أكثر نشاطاً-على حد وصفه.

سوق عمل قوي

ومن جهته، يقول المسؤول بموقع "لينكد إن" للوظائف، أ.كيران براساد: "قبل تفشي كورونا، كانت أرقام البطالة عند أدنى مستوى لها على الإطلاق، وكنا نشهد سوق عمل قوية حقاً؛ أما الآن فقد انخفض عدد الأشخاص الذين يدخلون إلى موقعنا للبحث عن وظائف، وكذلك عدد أصحاب العمل الذين يبحثون عن موظفين.

ويوضح براساد أنه وعلى الرغم من ذلك، لا تزال هناك بعض الشركات التي تقوم بالتوظيف بشكل جيد، مثل شركات التكنولوجيا. ويمكننا كذلك أن نرى في بيانات التوظيف أن الصين تواصل الاتجاه التصاعدي، والتوظيف فيها في الوقت الحالي يشبه إلى حد كبير التوظيف قبل أزمة كورونا.

ويؤكد على أن هناك زيادة كبيرة في إعلانات الوظائف الشاغرة التي تطلب موظفين للعمل عن بُعد؛ حيث ارتفعت هذه الإعلانات بنسبة 91٪؜ تقريباً. ومن المتوقع أن معظم الأعمال ستتم عن بُعد عقب انتهاء الأزمة. كما يتوقع ازدهار الوظائف المتعلقة بالبرمجة والإعلام، وكل ما يتعلق بالصناعات الطبية.

 

****

  • ​التكنولوجيا ستفضي إلى نهاية العمل..إيجابيات وتحديات

وعن التوجهات الجديدة في أسواق العمل وتداعياتها المختلفة يذكر المؤلف والباحث الأمريكي في مجالات علم الاجتماع والاقتصاد، "جريمي ريفكن"، في كتابه (نهاية العمل): "إن التكنولوجيا ستفضي تدريجياً إلى اختفاء الأيدي العاملة البشرية؛ وأن مؤشرات الأزمة الحالية متجهة نحو ذلك الهدف. ويجب علينا أن نتوقع انتشار البطالة، ويجب الاستثمار الضخم في الاقتصاد الاجتماعي، والتحلي بالأمل في ظهور مجتمع أقل تعلقاً بالتجارة والبيع، وأكثر تضامناً". أما استاذ القانون الاجتماعي، د."يوسف إلياس" فيوضح في كتابه (أزمة قانون العمل المعاصر: بين نهج تدخل الدولة ومذهب اقتصاد السوق) أن أكثر ما يمكن استثماره من إيجابية في هذا الصدد هو تقليل كثافة العمال خصوصاً في الدول التي تعاني من شح في القوة العاملة كدول الخليج العربي. وهذا التحول في طبيعة العمل له وجوه إيجابية وأخرى سلبية؛ فمن الجانب الإيجابي سيتمكن الموظفون والعمال من العمل ضمن ساعات عمل مرنة؛ وهذا سينعكس على العلاقات الاجتماعية، وعلى قدرة العامل على العمل في الوقت ذاته لدى أكثر من صاحب عمل، إضافة إلى التوفيق بين مقتضيات العمل والدراسة بالنسبة للطلبة. أما التحديات فستكون الكيفية التي سيتم من خلالها تنظيم علاقات العمل من الجانب القانوني والإجرائي، كطريقة احتساب ساعات العمل، ومسؤوليات والتزامات طرفي علاقة العمل، وآلية تحديد إصابات العمل، والتأمينات الاجتماعية.

 

  • تقارير اعلامية: هل ستتسبب أزمة كورونا في اختفاء المكاتب؟

تشير عدد من التقارير الإعلامية إلى أن أزمة كورونا، أجبرت نحو 2.6 مليار نسمة حول العالم على العزل المنزلي؛ ولذا أصبحوا مضطرين لممارسة أنشطة حياتهم اليومية من دون الانتقال إلى المواقع الطبيعية المخصصة لذلك. فقد أصبح معظم البشر مجبرين على القيام بمهام وظائفهم من بيوتهم، ومن دون أن ينتقلوا إلى المكاتب. وحسب هذه التقارير فإن أزمة كورونا في طريقها إلى جعل العمل عن بعد قاعدة، وجعل الذهاب إلى المكاتب هو الاستثناء، وأن وضع الموظفين في مبنى واحد للمكاتب قد لا يحصل أبداً مرة أخرى.

 

****

  • نموذج عمل جديد..شركة بلا موظفين مزيد من الأرباح وتقليص النفقات

أعلنت شركة "نيشن-وايد" الأمريكية للتأمين عن الانتقال الدائم لـ"نموذج عمل جديد"، حيث ستباشر الشركة عملها في أربعة مكاتب رئيسية في كل من ولايات: أوهايو، وأيوا، وأريزونا، وتكساس، بينما سيتابع الموظفون الباقون عملهم من بيوتهم، وسوف تقلص الشركة بهذا النموذج التكاليف المالية بما يضمن لها المزيد من الأرباح، وسيساعد على تقليص نفقات استهلاك الكهرباء والطاقة وايجارات وغيرها.

 

***

  • تغير المهارات المطلوبة الجديدة لأسواق عمل المستقبل

ذكر تقرير بعنوان: "العمل من أجل مستقبل أكثر إشراقاً"، صدر حديثاً عن منظمة العمل الدولية أن  هناك متغيرات كثيرة ستشهدها أسواق العمل في المستقبل القريب بفعل التقنية والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. وأن المهارات المطلوبة لأسواق عمل المستقبل ستختلف عما هو سائد اليوم؛ فالكثير من الوظائف المعتادة ستختفي، وستحل مكانها وظائف أخرى تعتمد بصورة مباشرة أو غير مباشرة على التكنولوجيات ووسائل التقنية الحديثة، والمنصّات الافتراضية لتسيير الأعمال اليومية، وبات من الواضح أن قطاعاً كبيراً من الوظائف والمهام يمكن إتمامها من خلال المنزل أو عن بعد من موقع العمل. ومن المتوقع أن يستثمر كل من القطاع الحكومي والخاص في البدائل المتاحة، كتقليص نفقات القوى العاملة بصورة مباشرة، وبصورة غير مباشرة نفقات مواقع العمل ومصروفات الطاقة والمعدات، وكل ما كان يعتمد عليه الموظف بسبب وجوده في موقع العمل. وهذا التغيير سيتطلب إعادة هيكلة القطاعين العام والخاص بالتحديد في حجم قوة العمل، وأن المعروض من الوظائف سيكون أقل، ومن جانب آخر طبيعة القدرات والمهارات المطلوبة لسوق العمل ستتغير تبعاً لذلك.


​​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة