د.عبدالعزيز الغريب:الابتعاث أكبر مشروع حضاري سعودي في الشرق الأوسط


 

​·       لم تعد العلاقة بالكتاب علاقة مباشرة بل أصبحت عبر وسيط رقمي

·       الاستقطاب الوظيفي أصبح يعتمد على المهارات والكفاءات وليس المؤهلات

·       الدورات التدريبية عامل مهم لضمان القدرة على الأداء الوظيفي المتميز

·       القيادات الشابة في المملكة والمشاركون في رؤية 2030 غالبيتهم من خريجي برامج الابتعاث

 

أكد الملحق الثقافي السعودي في إيطاليا، وأستاذ التغيير الاجتماعي والثقافي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية د.عبدالعزيز بن علي الغريب، أن الإدارة حالة علمية وتطبيقية إنسانية تؤثر وتتأثر بمحيطها الاجتماعي والثقافي، كما أشار إلى هناك تحديات كبير تواجه الإدارة اليوم في استقطاب القوى البشرية الأكثر تنافسية والأكثر قدرة وجدارة، في ظل اتساع رقعة المعروض من القوى البشرية. التقيناه على صفحات "التنمية الإدارية"؛ كي نقترب من خبراته العملية والأكاديمية، فتجاذبنا معه أطراف الحديث..وإليكم التفاصيل.

·       تمثل الإدارة أحد المجالات التي طرأ عليها تغيير اجتماعي وثقافي كبير في السنوات الأخيرة، ما أهم ملامح هذا التغيير، وما أبرز أسبابه؟

الإدارة حالة علمية وتطبيقية إنسانية تؤثر وتتأثر بمحيطها الاجتماعي والثقافي. في جميع دول العالم الإدارة كعلم وممارسة تتطور وتسير باتجاه التقدم للارتقاء بعملياتها وتحسين وتطوير مخرجاتها. فملامح التغير في الإدارة حالياً يُلحظ في الإيمان القوي بأهمية القيادة في الإدارة والبحث المستمر عن نماذج قيادية تكون رائدة ومبدعة في التغيير، والتنافسية الكبيرة بين منظمات العمل لاستقطاب القيادات، وهو ما يمكن أن أطلق عليه القيادات عابرة الحدود، بحيث يٌختار القائد بغض النظر عن جنسيته، وهو ما بدأت المملكة تقوم به حالياً في ظل التحول الوطني لرؤية 2030، حيث لوحظ استقطاب قيادات متميزة لمشاريع وبرامج كبيرة، كما نلاحظ تبوء القيادات الشابة مناصب قيادية في سنين مبكرة، كذلك نلاحظ التوظيف الإيجابي والأمثل لتقنيات العصر لتنفيذ العديد من العمليات الإدارية من الحاسوب والروبوت وتقنيات الذكاء الاصطناعي. إن الشفافية الكبيرة في علم الإدارة اليوم نلاحظها جراء الاستخدام المتطور للتقينات الحديثة، والتقليل من التدخل البشري في كثير من العمليات، والارتقاء بمجموعة من القيم الإنسانية أيضاً مشهد كبير اليوم، وكذلك التحفيز للتنافس المميز في الأداء بين القوى البشرية، فالإدارة اليوم أمام تحدٍ كبير في استقطاب القوى البشرية الأكثر تنافسية والأكثر قدرة وجدارة في ظل اتساع رقعة المعروض من القوى البشرية، خاصة المتوائمة مع حركية التغيير، وهناك تحدٍ آخر يتمثل في الهوية الإنسانية للعمليات الإدارية. إننا مقبلون على مزيد من التغير المتتالي والمتلاحق في الإدارة جراء ما نشهده من تغيرات سريعة في العالم.

التقنية والتدريب

·       في ظل انخفاض معدلات القراءة بشكل كبير مؤخراً، كيف تقيٍم قدرة الإنتاج العلمي للمؤسسات العلمية على الوصول للشريحة المستهدفة؟ وهل هناك فرص للظهور الرقمي؟

ما نشاهده اليوم في حياتنا العامة في القطارات والمطارات والأسواق الكبرى من القراءة عبر استخدام التقنيات الرقمية، هو المشهد ذاته الذي كان نشاهده للناس وهم ينظرون بشغف في الكتاب الورقي. هي الحياة هكذا ترتقي بحالاتها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد تغيرت أنماط العلاقات البشرية وأضيفت لها أنواع جديدة، فالسائد اليوم العلاقات غير المباشرة، أو العلاقات العابرة التي تتسم بها مجتمعات العولمة، لذلك لم تعد العلاقة بالكتاب علاقة مباشرة، بل أصبحت عبر وسيط رقمي. لذلك لست مع من يرى انحسار القراءة، لكن وسيلة القراءة هي التي اختلفت، كما نلاحظ نهوضاً كبيراً في

شركات النشر والإعلام والصحافة وغيرها من الاستخدام الكبير للتقنيات الذكية لطرح نتاجها العلمي والمعرفي وكذلك الحال في المؤسسات العلمية، فقلما تجد مجلات علمية تعتمد على النشر الورقي. لذلك أقول إنها حالة إنسانية طبيعية للوصول للقاريء بالطرق الميسرة والسهلة. خاصة إذا ما علمنا أن غالبية سكان المجتمعات هم الشباب لاسيما في المجتمعات النامية، كما أن الباحثين الشباب يستخدمون بكثافة التقنيات الرقمية. لذلك أعتقد أن انحسار النتاج الورقي هو حالة طبيعية لتغير سمات وخصائص الشريحة المستهدفة؛ لذلك سنشهد مزيداً من التحولات في النتاج المعرفي طبقاً لتحول سمات وخصائص المستفيدين. وفي ظني هو امتداد لتحولات سابقة في أوعية النشر المختلفة عبر التاريخ الحضاري للبشرية، وليس حالة لعالمنا اليوم فقط. والمتتبع لطبيعة النتاج العلمي والمعرفي يدرك ذلك. مع يقيني باستمرار العنصر المحب للنشر التقليدي الورقي، ولعل انتشار المعارض الدولية للكتاب في مختلف دول العالم والتي تتجاوز 50 معرضاً دولياً للكتاب في مختلف دول العالم دليل على ذلك.

·       يمثل التدريب حالة يتواجد فيها المتدرب برغبته الشخصية مدفوعاً بتطوير وضعه الوظيفي أو الحصول على وظيفة وهو ما يختلف عن التعليم، كيف ترى أثر التدريب مقارنة بالتعليم؟

في علم الاجتماع لدينا فرضية كبرى في نظرية التفاعل الرمزي (أن التعلم الرمزي حالة يعيشها الإنسان مدى الحياة)، فالتعليم قد يتوقف بالحصول على مؤهل ما، لكن التعلم لا يتوقف، والتدريب أهم أدوات التعلم في عالمنا اليوم. لذلك فإن مؤسسات كبرى تخصصت في التدريب، وهي ملمح من ملامح مجتمعات ما بعد الحداثة التي تركز على الجزئيات والتفاصيل في الحياة اليومية للإنسان، ومن ضمنها المهارات المختلفة التي يستطيع بها الفرد أن يضيف لتميزه تميزاً آخر، خاصة في ظل التنافسية الكبيرة في عالمنا اليوم. فالاستقطاب الوظيفي حالياً أصبح يعتمد على المهارات والكفاءات وليس المؤهلات، بمعنى ما تقوم به بيدك وقلبك أكثر مما يخزنه عقلك من معرفة، فالمهارة التطبيقية أصبحت الأصل في الاختيار الوظيفي.  نلحظ أيضاً أن التدريب لم يصبح موجهاً للجانب المهاري المرتبط بالأداء الوظيفي أو رغبة للحصول على عمل فقط، بل تحول ليكون من أجل اكتساب مهارات النجاح في الحياة الأسرية والاجتماعية والحياة العامة، لذلك نلحظ الإقبال على البرامج التدريبيبة المختلفة، وأعتقد أن توسع سوق التدريب في المملكة حالياً ما هو إلا دليل على الإقبال على البرامج التدريبية. فالحياة الشخصية والمهنية لا تتوقف لمجرد الحصول على مؤهل تعليمي، بل هي مستمرة وبشكل متتالي في عملية اكتساب مهارية سواء للحياة الوظيفية أو لمهارات حياتية متنوعة. لذلك لعلي أوجه دعوة لأبناءنا الطلاب ممن هم على مقاعد الدراسة بأن يطورو من سيرهم الذاتية والاستفادة مما تعرضه مؤسساتهم التعليمية من دورات تدريبية. فالمنافسة للحصول على وظيفة أصبحت عالية. كذلك المهن والوظائف تطورت كثيراً في عملياتها مما يجعل من الدورات التدريبية عامل مهم لضمان القدرة على الأداء الوظيفي المتميز.

القوى الناعمة السعودية

·       يمثل الابتعاث أحد وسائل التطوير الحضاري والعلمي..هل ترى أن الاستثمار في الابتعاث يحقق أهدافه أم يواجه تحديات؟

في علم التغير الاجتماعي والثقافي نرى أن الابتعاث أحد أهم أدوات الاتصال الثقافي والحضاري بين المجتمعات، سواء الحاضنة للابتعاث أو المجتمعات المبتعثة لأبنائها. فالابتعاث ليس فقط للحصول على مؤهل تعليمي، بل هو عملية أكبر من ذلك بكثير، هو وسيلة تغييير اجتماعي وثقافي وعملية تحديث مجتمعي، وكذلك عملية من عمليات الاتصال الثقافي المهمة، فهو يمثل القوى الناعمة التي تسعي من خلالها أي دولة للارتقاء بصورتها الذهنية، لذلك فالابتعاث السعودي في صورته الحديثة التي انطلقت عام 2006م بمسمى "برنامج خادم الحرمين الشريفين للإبتعاث الخارجي" أعتٌبِر أكبر مشروع حضاري سعودي في تاريخه، بل أكثر مشروع حضاري في الشرق الأوسط  كماً وكيفاً، فقد كان في وقت مضى خاصة في 2010/2011م أكثر من 400 ألف سعودي في أمريكا فقط من مبتعثين وأسرهم ومرافقيهم، فتخيل هذا العدد ودورهم كسفراء لبلدهم وما يمكن أن يسهموا به في التعريف بها والارتقاء بصورتها. ونتيجة للتخطيط السليم لهذا البرنامج الضخم؛ حقق الكثير من النجاحات. فيكفي أن تقرأ في السير الذاتية لأهم القيادات الشابة في السعودية الآن والذين يتولون مناصب قيادية، سواء في القطاعات الحكومية أو الخاصة، والمشاركين في رؤية 2030 تجد أن غالبيتهم من خريجي برامج الابتعاث وهذا هو النجاح الحقيقي. بل إن برامج التخصيص ما كان لها أن تُدفع بقوة لولا توفيق الله، ثم وجود جيل مؤهل ومتخصص ومتمكن من خريجي الابتعاث. لذلك عندما أعلن ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان-يحفظه الله-ثقته في الشباب السعودي وأنه مثل جبل طويق وقادر على إحداث التغيير؛ فإن سموه الكريم كان يعلم النجاحات التي حققتها برامج الابتعاث، وبالطبع إضافة إلى مخرجات مؤسساتنا التعليمية المحلية. كما أن التطوير المستمر لبرنامج الابتعاث قلل من أخطائه وتعثره وجعله يتخطى كثير من التحديات التي واجهها سواء تحديات اقتصادية أو ثقافية أو تنظيمية، والذي يحظى بمتابعة خاصة من معالي وزير التعليم أ.د.حمد آل الشيخ، ومعالي نائب الوزير للجامعات والبحث والابتكار أ.د/ حاتم المرزوقي ومن سبقهم من أصحاب المعالي والسعادة. ونحن الآن في السنة الخامسة عشر منذ بداية برنامج الإبتعاث، وهي شاهدة على مقدار النجاحات التي حققها البرنامج، ونسأل الله مزيداً من النجاحات لهذا البرنامج الكبير.

·       أحدثت تكنولوجيا الاتصال والمعلومات تغييرات كبيرة في بنية المجتمعات العربية..ما أهم الآثار السلبية لهذه التكنولوجيا على مجتمعاتنا؟

كان علماء النظرية النقدية أو ما عرف بمدرسة فرانكفورت منذ الستينيات من القرن الماضي يقولون (ماذا ستفعل التقنية بالإنسانية؟) وما يتهدد الإنسانية منها؟ وهناك العديد من الدراسات التي تناولت سلبية التقنية، خاصة مظاهر الاغتراب الاجتماعي والمهني، وتسريح القوى البشرية والاستغناء عنهم، وتسهيل وقوع الجريمة المخططة، وطغيان المادة على المشاعر، وطغيان العلاقات العابرة وغيرها. إلا أنه في حقيقة الأمر مهما تحدثنا عن سلبيات؛ إلا أنها لا توازي الكثير من الإيجابيات التي حققتها، فيكفي أن المعلومة أو المعرفة لم تعد محتكرة لفئة وشريحة معينة وحجبها عن أخرى، يكفي أن يشعر الإنسان من خلال التقنية بأنه في مأمن، خاصة مع تفاعل المؤسسات والقطاعات المختلفة مع التقنية وتفاعلها المباشر مع احتياجات الفرد ومعالجة مشكلاته. فقد أصبح الإنسان في مجتمع التقنية أكثر قدرة على المعرفة وإدراك قيمة المعلومة والتجول في مصادر المعلومات المختلفة، وفي ظل تطور القوانين المنظمة للاستخدام الأمثل للتقنيات، يمكن التخفيف من الآثار السلبية لها والارتقاء بإيجابياتها الكثيرة جدا.

أودية التقنية

·       برأيك كيف نطور من قدرات الشباب السعودي العلمية والتقنية لزيادة أعداد المخترعين والمبتكرين في المجالات المختلفة؟

المملكة هي أكثر دولة في الشرق الأوسط من حيث عدد براءات الاختراع، وأعتقد أن هناك جهوداً كبيرة تقوم بها المؤسسات الرسمية، مثل وزارة التعليم، ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، ومؤسسة الملك عبدالعزيز ورجاله لرعاية الموهبة من أجل رعاية المخترعين والموهوبين والمبدعين. كما أن الجامعات بادرت بإنشاء وحدات على مستوى عالٍ من وكالات وعمادات ومعاهد لرعاية المخترعين والموهوبين، وتضم بعض الجامعات أودية للتقنية هي مجال لتطوير الاختراعات وتحقيق ما يسمى باقتصاد المعرفة وتحويل النتائج البحثية إلى منتجات معرفية ذات عوائد اقتصادية. ولا شك أن التطوير مطلب لأي عمل وجهد إنساني، خاصة إذا ما علمنا أن الدعم والتمويل ربما يكون هو المعضلة الرئيسية التي تواجه كل مخترع؛ لذلك من المهم تطوير وسائل وأساليب تمويل أبحاث المخترعين لتحويلها لمنتجات ومشاركة المؤسسات المالية والمصرفية لتمويلها، أو تطوير ما هو قائم منها وتطبيق أساليب وأنظمة رأس المال الجريء الذي يمكن من خلاله تمويل المخترعين لانجاز اختراعاتهم. وأعتقد أن هناك جهوداً تُبذل في هذا المجال والاستفادة من المؤسسات التعليمية العالمية ذات النجاحات في مجال تطوير الاختراعات، إضافة إلى أهمية دخول المؤسسات الخاصة لمجال البحث والتطوير بصورة كبيرة لاحتضان ورعاية المخترعين؛ من أجل تحويل تلك الاخترعات إلى منتجات اقتصادية ترعاها هذه الشركات والمؤسسات الخاصة وتمول تطويرها من مبدأين: الأول اقتصادي، والثاني كمسؤولية اجتماعية من قبلها تجاه مجتمعاتها المحلية.

·       ظهرت وظائف مستحدثة للشباب بفعل التطور التكنولوجي..ما تقييمك لأثر التكنولوجيا في مجال استحداث وظائف وتطوير وظائف موجودة؟ وهل استطاع الشباب السعودي توظيف التكنولوجيا لتحقيق هذا الهدف؟

في علم اجتماع المعلومات نظرية مجتمع المعلوماتية التي تشير إلى انحسار القوى البشرية التي تمارس أعمالها بيديها وظهور أشكال جديدة من الوظائف لم تكن مألوفة جراء طبيعة الحياة الاقتصادية والمالية، وأن هناك تحولاً في سلم التدرج المهني في عالمنا اليوم، وكذلك تحول في التفضيلات المهنية المجتمعية، فنلاحظ من خلال دراسات متخصصة في تفضيلات المهن ودراسات المكانة المهنية في المجتمع، أو حتى دراسات السلالم المهنية في علم الاجتماع التنظيمي والإدارة أن هناك ارتقاء مهن على حساب أخرى، وانحسار مهن على حساب أخرى. لذلك هناك رؤية تقول إنه على الجامعات والمعاهد العليا التفاعل المهم مع تلك التغيرات، بحيث تضيف وتعدل من برامجها الأكاديمية بما يتواكب مع احتياجات سوق العمل. وهذا ما تقوم به الجامعات وإن كان بشكل بطيء لا يتناسب مع حركة التغير في سوق الوظائف والمهن، كذلك إقبال الشباب على البرامج التدريبية لاكتساب مهارات معينة تناسب احتياجات سوق العمل، وللتعويض عما فقدوه من برامج أكاديمية مناسبة لاحتياجات سوق العمل، هو مؤشر ايجابي. نلاحظ أيضاً أن التقنية خلقت فرص عمل ذاتية كبيرة سواء من خلال التطبيقات الذكية أو الشركات القائمة على التجارة الإلكترونية، إضافة إلى شيوع مؤسسات وشركات رواد الأعمال، كل هذه وغيرها تجد اقبالاً كبيراً عليها في المملكة وفي دول العالم. وهناك تغيير في التفضيلات الجامعية، من خلال اإاقبال على نمط من التخصصات فرضته حالة سوق العمل وهو حالة طبيعية لحالة عالمية.​​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة