البصمة الوراثية

​​إن تقدم العلوم وتطورها خطى بالتحقيق الجنائي خطوات كبيرة لمواجهة استخدام المجرمين للوسائل العلمية والتكنولوجية الحديثة في اقتراف جرائمهم؛ مما فرض على الأجهزة الأمنية استخدام الأسلوب العلمي والتقنيات الحديثة وأجهزتهما لكشف وإثبات الجريمة ومرتكبيها ، من خلال  علم البصمات  الذي أسهم في تحقيق الشخصية، وأسهم علم البيولوجيا  في التعرف على فصائل الدم والحمض النووي  من خلال  تحليل البقع المختلفة وذلك طبقا لنظرية "إدموند لوكارد": ( كل مجرم  يترك في غالب الأحيان دون علمه في مكان ارتكاب جريمته آثاراً ويأخذ على شخصه أو ثيابه أو أدواته آثاراً أخرى). وكشف الجريمة في هذه الحالة يتوقف على قدرة المحقق وخبرتـه في أهمية البصمة الوراثية في إثبات جرائم العرض التي  يكون من فعلها العار والضُر من الحمل وضياع النسب وسلب السمعة. ويلاحظ  أنه لم يرد تعريف للبصمة الوراثية في التشريع والقضاء-على حد علمي-حتى كتابة هذا السطور، ومن ثم يمكن تعريف البصمة الوراثية أو الحمض النووي بأنها "وحدة البناء الأساسي للخلية التي تنقل المعلومات الصادقة الدلالة، على هوية الفرد والمسلسلة للصفات الوراثية، والبرمجة، والمقدرة، والمشفر التي تحمل التمايز وعدم التشابه والقابلة للقراءة الفنية من قبل خبير لتنبأ منذ بداية تكوين كل كائن حي على جزيء الحمض حتى بعد الموت وعبر الأجيال بكل أمانة، ولا تقبل السقوط ولا المحو بمضي المدة؛ باعتبارها تقنية ذات قوة تدليليه استخدمت في النفي والإثبات الجنائي .

الإشكالية أن البصمة الوراثية يرجى منها نفع المجتمع والفرد لإثبات جرائم العرض؛ غير أنها في المقابل تنشأ عنها مشكلات قانونية. فهذه البصمة تنتهك الحق في الخصوصية الجينية الذي يقوم على عنصرين هما: العنصر الشخصي وهو الإرادة الواعية لصاحب الجين وعدم اطلاع الغير على معلوماته الجنية إلا برضاه الحر، والعنصر الموضوعي وهو الطبيعة الذاتية للجين وليس للإنسان دخل في التركيب الجيني، والكشف عنها يخضع للهندسة الوراثية؛ حيث يقتضي أخذ عينة من جسد الإنسان دون المساس بسلامة الجسد سواء كان الأخذ بغرض طبي، أو غرض جنائي، أو غرض علمي، أو إضافة إلى إفشاء السر المتعلق بهذه المعلومات الجينية. ومن ثم تنطبق عليها القواعد العامة في الإثبات وهي "البينة على المدعى".

وتجدر الإشارة إلى أن القانون لا يُجيز إجبار الشخص بتقديم دليل ضد نفسه؛ ذلك أن البصمة الوراثية هي إجبار الشخص على أن يقدم شاهداً من جسده على إدانته أو براءته. وقد اختلف الفقه حول طبيعة البصمة الوراثية في الإثبات الجنائي؛ والرأي الغالب يذهب إلى قبول الأدلة العلمية الحديثة في الإثبات الجنائي بضوابط معينة، وبشروط وضمانات لا يجوز اعتبار البصمة الوراثية دليلاً مباشرة لإثبات الحدود؛ إلا أنهم اختلفوا في تحديد طبيعتها إلى رأيين كما يأتي: الرأي الأول ينظر إلى البصمة الوراثية باعتبارها خبرة جنائية، ودليل من الأدلة، ويمكن الحصول عليها عن طريق فحص الجسد؛ كأخذ فصيلة الدم، أو الشعر، أو اللعاب، وغيرها.  والرأي الثاني: يرى أن البصمة الوراثية هي قرينة قانونية قاطعة تفيد اليقين؛ ويمكن من خلالها إثبات الجرائم المدعى بها. وقد استقرت محكمة النقض المصرية  على أن "إجبار المتهم على الخضوع للإجراءات الطبية اللازمة لا يؤدي إلى بطلان في الإجراءات"، ونصت المادة (171) من نظام الإجراءات الجزائية السعودي رقم (أ/2) تاريخ  22/1/1435هـ على أن "للمحكمة أن تندب خبيراً أو أكثر لإبداء الرأي في مسألة فنية متعلقة بالقضية، ويقدم الخبير إلى المحكمة تقريراً مكتوباً يبين فيه رأيه خلال المدة التي تحدد له وللخصوم الحصول على صورة التقرير"، ونصت المادة (179) من نظام الإجراءات الجزائية رقم (أ/2)  لسنة 1435هـ على أن "تستند المحكمة في حكمها إلى الأدلة المقدمة إليها أثناء نظر القضية، ولا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه ولا بما يخالف علمه"، ومن ثم يعمل بها كدليل يخضع لتقدير القاضي الجنائي؛ إلا أنه يوجد فراغ تشريعي بشأن وضع حلول جديدة مستحدثة تتناسب مع المشكلات الناتجة عن البصمة الوراثية منها، ومشروعية استخدامها ومنها التوفيق بين ضرورة إجبار المتهم باللجوء للفحص الجيني لكشف الحقيقة وبين احترام حقوق المتهم وحرياته.

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة