الاقتصاد المعرفي والتجارة الإلكترونية

لم تَعُد ثروة الأمم تأتي من تجارةٍ تديرُها، أو أراضٍ تَمْتِلكُها، أو آلات تستخدمُها، ولكنها تأتي من التجديد والابتكار المنبثق عن البحوث والتطوير، والتدريب والتعليم المستمر، وتأهيل الكوادر الوطنية القادرة على مواجهة تحديات الأوضاع الراهنة والمستقبلية. ومن هنا برز مفهوم الاقتصاد المعرفي في العقد الأخير من القرن العشرين، حيث ذكر "رالف ستاير"-مدير شركة "جونسون"-في السابق كانت المصادر الطبيعية أهم مكومات الثروة الطبيعة، وأهم موجودات الشركة، وبعد ذلك أصبح رأس المال–متمثلا في الأموال والآلات-من أهم مكونات المشروعات، أما الآن فقد حل محل المصادر الطبيعة والأموال والمعدات الثابتة رأس المال المعرفي الذي يعد من أهم مكونات الثروة الوطنية وأغلى ما تمتلكه الشركات. أضف إلى ذلك أن ركائز الاقتصاد المعرفي أضحت أحد أهم الموارد الاقتصادية المتجددة والمتزايدة في عصرنا الحديث، سواء ما يعرف بالمعرفة الصريحة التي تشتمل على قواعد البيانات والمعلومات والبرمجيات وفنون الإنتاج، أو المعرفة الضمنية التي يمثلها الأفراد بخبراتهم ومعارفهم القائمة على ابتكار وامتلاك  Know How وسبل تطويعها) المحرِّك الرئيسي لعملية النمو المستدام وخلق الثروة الوطنية. ويرجع ذلك بصفة أساسية لتسارع وتيرة التطورات الحديثة، والتي تمثل المحرك الرئيسي لكافة المتغيرات الاقتصادية والسياسية، وأحد الأركان الأساسية والسمات الطبيعية لزيادة وتحفيز معدلات النمو الاقتصادي للعديد من الدول.

وتؤكد نتائج العديد من الدراسات التطبيقية على أن هناك أثرًا إيجابيًا للمعرفة على النمو الاقتصادي في المدى الطويل، وذلك من خلال العديد من المتغيرات؛ كرصيد رأس المال البشري، ومستوي الابتكار المحلي، وتطبيق التقنية، ومستوى تقنية الاتصالات والمعلومات المستخدم. حيث أوضحت الدراسات أن الزيادة في متوسط سنوات التعليم بنسبة 20% أدى إلى زيادة معدل النمو الاقتصادي بنسبة 0.15 %، كما أن الزيادة نفسها في الابتكار أدت إلى زيادة معدل النمو الاقتصادي بنسبة 3.8 %، أما التحسن في البنية البحثية لمنظومة ICT فقد أدى إلى زيادة معدل النمو الاقتصادي بنسبة 0.11 %. وفي المملكة العربية السعودية أوضحت تقارير هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات أن الانفاق على منتجات تقنية المعلومات، من قبل الحكومة والشركات والأفراد خلال الفترة 2001-2006، ازداد بما يقارب أربعة أضعاف بمعدل نمو سنوي بلغ 18.5%، وهو ما يعادل 22.3 مليار ريال  في عام 2009، وبما يمثل نسبة 30% من مجموع الإنفاق الكلي على الاتصالات وتقنية المعلومات بالمملكة، ثم قفز إلى 42.1 مليار ريال عام 2014.

وعندما أطلقت المملكة رؤية 2030، كخطة طويلة الأجل في أوائل شهر أبريل من عام 2016، مستهدفةً تنويع مصادر الإيرادات العامة، وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للإيرادات. انبثق عن الرؤية برنامج التحول الوطني في يونيو 2016، والذي حدد 178 هدفًا استراتيجيًا يندرج تحته أكثر من 340 من المستهدفات والمؤشرات لقياس النتائج المرجوة في 24 وزارة ومنشأة حكومية. كان دعم وتطوير قطاع التجارة الإلكترونية باعتباره مكوناً رئيسيًا في أحد محاورها؛ بُغية تعزيز التنوع الاقتصادي، وتشجيع التدفقات الاستثمارية الأجنبية، وتهيئة بيئةً جاذبة للمستثمرين الدوليين والمحليين في قطاع التجارة الإلكترونية، وذلك حتى يمكن زيادة فرص العمل المتولدة من خلال تطوير مهارات الشباب، وتعزيز مشاركة المرأة في سوق العمل، وتنشيط قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة، أضف إلى ذلك تعزيز سهولة أداء الأعمال وتسهيل دخول الشركات الدولية إلى السوق السعودي.

كما تخطط حكومة المملكة إلى زيادة قيمة الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 30 مليار ريال إلى 70 مليار ريال بحلول عام 2020، وتعزيز ترتيب المملكة على مؤشر البنك الدولي لسهولة أداء الأعمال من 82 إلى 20. ومن ناحية أخرى تشمل أهداف برنامج التحول الوطني زيادة ثقة المستهلك من خلال تعزيز التجارة العادلة، وتقوية السياسات وأطر العمل التي تحمي حقوق المستهلك، ورفع الوعي بشأن هذه حقوق، وعليه فقد تم تكليف وزارة التجارة والاستثمار للعمل على تحسين تقييم المملكة في مؤشر ثقة المستهلك ويرتفع ترتيبها من 106 إلى 115 بحلول عام 2020.

ولمعرفة ترتيب المملكة في التجارة الإلكترونية من المنظور العالمي، أوضحت دراسة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة وال تنميةUNCTAD  في عام 2017م، والتي وضعت معايير لمدى جاهزية دول العالم للمشاركة في التجارة عبر الإنترنت، مستخدمة المعايير التالية: (انتشار استخدام الإنترنت، وعدد خوادم الاتصال بالإنترنت المؤمنة مقابل كل مليون نسمة من السكان، وانتشار الحسابات البنكية، والموثوقية البريدية)، حصلت المملكة على الترتيب رقم 46 من بين 144 دولة، متفوقةً على كل من الهند والصين.

فالتجارة الالكترونية يمكن تعزيز دورها في عمليات التنمية بالمملكة، واعتبارها اليد الخفية التي تعمل على دفع عجلة النمو الاقتصادي، وذلك من خلال زيادة وعي المستهلك بمرونة وسهولة وأمان عمليات التجارة الالكترونية، هذا من جانب الطلب، أما من جانب العرض فيمكن تحقيق ذلك من خلال تحفيز المشروعات الصغيرة والمتوسطة للاندماج في القنوات الرقمية؛ لقدرتها على التنويع وسرعة تلبيتها للخدمات المطلوبة من قبل المستهلكين، أضف إلى ذلك دعم البحوث والدراسات وتحفيز الشباب على التجديد والابتكار ، وتبني حاضنات المشروعات لتطبيق الابتكارات الجديدة، حتى يمكن جني ثمار التكنولوجيا الحديثة في عصر زادت فيه حدة الصراعات الأممية والتطورات الالكترونية لتحقيق مصالح الدول الاقتصادية والوطنية.​


 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة