الإدارة الاستشرافية..حماية من "المساحات العمياء" وتركيز على السيناريوهات

​"الإدارة الاستشرافية" هي أحد أهم الأفكار والمفاهيم الكبرى، والتي اكتسبت ضرورة ملحة وتحظى بأهمية خاصة في عالم الإدارة المعاصر وبيئته التي تموج بمتغيرات متنوعة ومتسارعة، وظهور العديد من المفاهيم الإدارية المستحدثة؛ كالقيادة الاستشرافية، والريادة الإستراتيجية، والإدارة بالسيناريوهات، والتخطيط الإستراتيجي، والإبداع والابتكار في المنظمات، والتميز التنظيمي، والبراعة التنظيمية، وإدارة المعرفة، والتحالفات الإستراتيجية، والـ"هندرة" أو هندسة التغيير، وإدارة الجودة الشاملة، وغيرها من المفاهيم التي تلبي متطلبات العصر واستشراف المستقبل؛ من أجل المنافسة والبقاء، وتحقيق التميز. وفي هذا العدد من "التنمية الإدارية" نقدم لكم هذا التقرير الذي نسلط فيه الضوء على "الإدارة الاستشرافية".

مهم جداً ومختلف

في البداية نؤكد على أن الاستشراف في عالم الإدارة قد أضحى من السمات العصرية للمؤسسات؛ لذلك فهو يتمتع بأهمية خاصة في دورة حياة هذه المؤسسات ومدى قدرتها على الاستمرار والتنافس مع غيرها، كما أنه يختلف تماماً عن غيره من المفاهيم الأخرى. وهو ما يوضحه لنا د.جابر يحيى في بحثه المعنون: "دور استشراف المستقبل في العمل الإداري"، إذ يرى أن الوعي بأهمية المستقبل واستشراف آفاقه وفهم تحدياته فرصة من المقومات الرئيسية في صناعة النجاح للمجتمعات بشكل عام وللمؤسسات والمنظمات بشكل خاص؛ فلا يمكن أن يستمر النجاح والتطور الإداري دون امتلاك رؤية واضحة لمعالم المستقبل وخاصة في العصر الحالي. وتبدو أهمية الاستشراف في الحياة الإدارية من خلال ما يلي:

  1. قيادة عملية التخطيط، وهو أسلوب لدراسة المستقبل، والدراسات المستقبلية تمثل الأسلوب المعلوماتي الذي تقوم عليه عملية التخطيط؛ فهي تزود الإداريين والمخططين بشتى صور وأشكال البدائل المستقبلية التي تمكنهم من اختيار الأفضل والأنسب لمستقبل العمل الإداري في أي مؤسسة أو منظمة.
  2. تٌمكٍن القائمين على التخطيط ومن خلال التنقل في إطار الماضي والحاضر من توقع صور المستقبل الممكن أو المرغوب فيه بدقة، وكذا تحقيق هذا المستقبل والاستعداد له ولمتطلباته وتحدياته حتى لا نفاجأ بصعوبات ومشكلات تعيق تقدم المؤسسات أو المنظمات وتطورها.
  3. المستقبل سريع بإنجازاته العلمية والتكنولوجية ومتغير بما يحمله من سرعة متزايدة من التغييرات الشاملة (تقنية، وعلمية، واقتصادية، واجتماعية) والمؤسسات أو المنظمات غير المستعدة لمواكبة تلك التغيرات سوف تفقد القدرة على معايشة الغد والاستفادة من إنجازاته.

ويشير د.جابر إلى أن المستقبليين أصبحوا يستخدمون صور استشراف المستقبل كأداة للتخطيط في شتى مجالات الحياة ويضعونها أمام المسئولين سواء كالمؤسسات أو منظمات أو حكومات، وأصبح بالإمكان أن يختاروا هذه الصورة. ويبرز د.جابر الاختلافات بين الاستشراف وغيره من المفاهيم الأخرى التي قد تتداخل معه. فيرى أن الاستشراف ما هو إلا المعرفة التامة باتجاهات المستقبل وتحديد البدائل واختيار أفضلها معتمدين على قوة هذه الاتجاهات والتأثير بها وتوجيهها نحو الأفضل، وهو بعيد كل البعد عن التنجيم والتكهن وغيرها من الأساليب القديمة، ولكنه مهارة علمية تهدف إلى استشراف التوجهات العامة في الحياة البشرية والتي تؤثر بطريقة أو بأخرى في مسارات كل فرد أو منظمة أو مجتمع أو مؤسسة حكومية. كما يختلف الاستشراف عن التنبؤ في درجة تحديد حدوث بديل ما أو بدائل معينة من بين بدائل أخرى. ويختلف أيضاً عن التخطيط طويل المدى أو ما يسمى بالتخطيط الاستراتيجي فهو أسلوب علمي يغطي فترة زمنية طويلة ويمكن القول نسبياً 5 سنوات فما فوق ويأخذ في الاعتبار المتغيرات الداخلية والخارجية، فالتخطيط هو أحد الأساليب النوعية لاستشراف المستقبل. أما الإسقاط بالقرنية فهو يقوم على افتراض أن ثمة ارتباط زمني بين حدثين، حيث يقع أحدهما قبل الآخر عادة، بحيث يمكن التنبؤ بالحدث اللاحق استناداً إلى الحدث السابق.

8 أسس استشرافية

ويرصد د.عماد الطحان في بحثه بعنوان: "تأثير استشراف المستقبل في تحقيق الريادة الإستراتيجية للمنظمات" 8 أسس منهجية في مجال استشراف المستقبل كالتالي:

  1. الشمولية والنظرة الكلية للأمور: من أوضاع سياسية؟ اقتصادية، اجتماعية، وغيرها؛ فتفاعلها مع بعضها توفر رؤية شاملة.
  2. مراعاة التعقيد: أي تفادي الإفراط في التبسيط والتجريد للظواهر المدروسة.
  3.  القراءة الجيدة للماضي والحاضر: قراءة لتجارب الآخرين وخبراتهم واستخلاص دروس تفيد بمنطق المحاكاة في فهم آليات التطور وتتابع المراحل وقراءة الحاضر والاتجاهات العامة السائدة.
  4. المزج بين الأساليب النوعية والكمية في العمل المستقبلي: فالأساليب النوعية فقط، أو الأساليب الكمية فقط يندر أن تفي بمتطلبات إنتاج دراسة مستقبلية، وإنما المزج بين الأسلوبين يؤدي إلى نتائج أفضل.
  5. الحيادية والعلمية :من خلال التعرف على البدائل وعدم استبعاد بدائل معينة لمجرد رفض الدراسة لمنطلقاتها أو ادعاءاتها.
  6. عمل الفريق والإبداع الجماعي: فهو أمر تفرضه طبيعة الدراسات المستقبلية.
  7. التعلم الذاتي والتصحيح المتتابع للتحليلات: والتتابع وهذه الدراسات والأبحاث لا تنجز دفعة واحدة بل إنها عملية متعددة المراحل يتم بها إنضاج التحليلات وتعميق الفهم وتدقيق النتائج.
  8. الإدراك الكامل بأن أفضل المعرفة هو معرفة المستقبل: فينبغي على الإنسان في بنائه للخطط واستكشافه للبدائل واختياره للأهداف أن ينحو نحو معرفة المستقبل منطلقاً من القراءة الجيدة للماضي والحاضر وكيف سيؤثر على الأحداث المستقبلية.

الإدارة بالسيناريوهات

وعلى جانب آخر يصحبنا كل من: "لييام فاهي" و"روبرت راندال" إلى أحد الآليات المهمة في نجاح الإدارة الاستشرافية وقدرتها على التحليق بمؤسساتها في آفاق عوالم النجاح، وهي السيناريوهات، أو ما يٌعرف بـ"الإدارة بالسيناريوهات". فالسيناريو هو الوصف التمثيلي للأوضاع والأحداث المحتملة الوقوع. وعندما نتكلم عن سيناريوهات المستقبل فإننا نقصد بها ذلك الوصف التمثيلي لأبعاد المستقبل الممكنة، بدءاً من الوضع الراهن، وبلوغاً إلى نقطة محددة في المستقبل.

تعتبر السيناريوهات من أدوات التخطيط الإستراتيجي التي يستخدمها كل من:

  • قادة المؤسسات الذين يسعون لفهم الأبعاد المحتملة للمستقبل بغرض اتخاذ القرارات الحالية بأقصى درجة ممكنة من التأكد.
  • مديرو أقسام وأنشطة التسويق والاستثمار في الأوراق المالية والأبحاث والتطوير وكل من لهم علاقة باتخاذ قرارات ذات آثار مستقبلية بعيدة المدى.
  •  الوزراء والمستشارون الإداريون الذين يساهمون في وضع الخطط الاقتصادية الخمسية والخطط المتوسطة والطويلة الأجل للأنشطة الصناعية والاجتماعية للمؤسسات والشركات الوطنية.
  • الباحثون الإداريون والخبراء المهتمون أكاديمياً بمفهوم الإدارة بالسيناريوهات ودراسة الأبعاد المحتملة للمستقبل.

ويلخص كل من "فاهي" و"راندال" أهمية الاعتماد على الإدارة بالسيناريوهات بدلاً من الإستراتيجية، من خلال توضيح مفهوم "المساحة العمياء" التي هي عبارة عن مساحة توجد في كل خطة إستراتيجية تتجنب هذه الخطة التفكير فيها أو التعرض لها. وتزيد هذه المساحة العمياء بزيادة تحيزات واضع الخطة وشدة نقص معلوماته ومحدودية التجارب التي تعرض لها. ومن الطبيعي أن تختلف المساحة العمياء باختلاف المؤسسة اعتماداً على ثقافتها وحالتها في الحاضر والماضي. وتشكل المساحات العمياء داخل كل خطة إستراتيجية نقاط ضعفها الأساسية بحيث يمكن للمنافسين-إذا اكتشفوها-أن يسحقوا الشركة ويدمروها. فلفترة طويلة من الزمن ظلت"أمريكان أكسبريس" تضع إستراتيجيتها بناء على الظن بأن هناك علاقة طردية بين الأرباح والحملات التسويقية التي تقوم بها، فقد كان الجمهور شديد التأثر بوسائل الإعلام والإعلان، لدرجة رفعت الأرباح عقب كل حملة إعلانية؛ مما جعل المديرين يتوقعون بإمكان استمرار الوضع نفسه في المستقبل، وذلك حتى بدأت المؤسسات المنافسة تكسب السوق بالتركيز على توفير خدمات أكثر سهولة وسرعة وتنوعاً. كذلك أتى على بعض الشركات حين من الدهر ظنت فيه أن المصدر الوحيد للأرباح هو زيادة مبيعات منتجاتها الحالية؛ مما دفعها للاهتمام بتوسيع وتدريب قطاع المبيعات إلى درجة أثرت على الاهتمام بقطاعي الإنتاج والبحوث والتطوير. وهكذا حارت هذه الشركات في أمرها عندما فاجأتها المنافسة بطرح منتجات جديدة اكتسحت الأسواق.

فالخطة الإستراتيجية التي تصدر عن الإدارة العليا تكتسب قدراً من المصداقية يجعلها تتحدى كل الاجتهادات وتقاوم كل التعديلات لفترة طويلة من الوقت. فهي تفترض شكلاً محدداً للمستقبل وتفرض هذا الشكل على الشركة بأكملها، وتستبعد كل الرؤى والافتراضات البديلة عن المستقبل. لذلك فكثيراً ما تتحول الخطة الإستراتيجية إلى عائق يحول دون التغيير والتقدم بدلاً من أن تسهل السبيل إليهما. ومن هنا تنبع الحاجة للانتقال إلى الإدارة بالسيناريوهات، والتي تفترض أن المستقبل مفتوح لجميع الاحتمالات الممكنة. فداخل السيناريوهات تتراص جميع المتغيرات ذات التأثير المحتمل على الشركة مما يفتح آفاق التصور أمام المدير لاستعراض جميع الاحتمالات، بما يسمح بالمفاضلة بينها في غياب التحيزات والأحكام المسبقة. على ذلك تكمن أهمية السيناريوهات في أنها تمكٍن المدير من التمرن وإجراء البروفات على عدد من الأحداث المستقبلية الممكنة. وبهذا يمكننا اعتبار الخطة الإستراتيجية نفسها واحداً من السيناريوهات المحتملة، أو ما يطلق عليه "السيناريو الرسمي".

ويحدد "فاهي"، و"راندال" فائدة السيناريوهات بالنسبة للمؤسسات على النحو الآتي:

  • تحليل العائد/التكلفة: يمكٍنك السيناريو من استعراض التهديدات والفرص الكامنة في المستقبل.
  • أنابيب اختبار: تعتبر السيناريوهات أنابيب اختبار لإستراتيجية الشركة وقدرتها على النجاة والبقاء على قيد الحياة.
  • أسئلة حرجة وإجابات تجريبية: تطرح السيناريوهات الأسئلة الحرجة التالية: أين نريد أن تكون شركتنا؟ وأي مستقبل هو ذلك الذي نحلم به؟ ما هي الأحداث التي تقود مستقبلنا؟ ما هو المنطق الذي يحكم الأحداث التي تقود مستقبل الشركة؟ ما هي الحلول المتاحة؟ ما هي الصعوبات التي يمكن أن تواجهنا؟ أي مستقبل يمثل كابوساً بالنسبة لنا؟ وماذا سنفعل عندما يحل؟
  • توحيد الرؤية: يتيح السيناريو إمكانية توحيد الرؤية داخل الشركة، حيث يتم إشراك العاملين والمستويات الإدارية والتنفيذية الأخرى في عمل السيناريوهات، ذلك بجانب سهولة فهمها، على النقيض من الخطة الإستراتيجية التي يصممها أعضاء الإدارة العليا وتظل حبيسة الأدراج تحتاج لمن يفسرها ويبسطها لما دون ذلك من المستويات التنظيمية.
  • أبعاد استشرافية

ويلفت د.عماد الطحان إلى 3 أبعاد للاستشراف في عالم الإدارة وتتمثل في الآتي:

  • الرؤية المستقبلية: وهي عبارة عن بيان تصدره المؤسسة لما تنوي أن تكون عليه في المستقبل، وتُوضع هذه الرؤية من قبل الإدارة العليا؛ للمساعدة على التخطيط والتوجيه، ويمكن القول إن مصطلح الرؤية يجيب عن كثير من الأسئلة مثل؛ ماذا تريد المؤسسة أن تصبح عليه؟ وإلى أين ستصل في مسيرتها؟ وتحدد الرؤية خططها المستقبلية في التنمية، حتى تصل إلى الصورة المثالية، وتعتبر أساس أي تطور تسعى المؤسسة لتحقيقه، ويجب أن تتصف الرؤية بالوضوح، والبساطة والإيجاز.
  • التحليل البيئي الإستراتيجي: يُعد التحليل الإستراتيجي أحد المكونات المهمة لعمليات الإدارة الإستراتيجية؛ حيث يهتم بمتابعة وتحليل التغيرات البيئية الداخلية والخارجية للمؤسسة، لتحديد مواطن القوة والضعف والفرص والتهديدات البيئية الحالية والمتوقعة؛ مما يؤدي في النهاية إلى تحديد طبيعة الخيار الإستراتيجي الملائم للمؤسسة.
  • التفكير الإستراتيجي: هو نشاط إبداعي ومسار فكري تخطيطي شمولي متعدد الرؤى والأبعاد ينطلق من دراسة الواقع بكل أبعاده ومظاهره ويرسم رؤى وأهداف مستقبلية ويضع برامج وخطط عملية تساعد على الانتقال إلى المستقبل المنشود.

"حضارة المستهلك"

وعلى صعيد متصل، ينظر العديد من الخبراء والأكاديميين إلى الإدارة الاستشرافية باعتبارها الأساس القوي لتحقيق الريادة الإستراتيجية للمؤسسات والمنظمات المختلفة، إذ أن الارتباط بينهما يتسم بالقوة. فهذه المؤسسات والمنظمات لا تتنافس على أسواق حالية بقدر تنافسها الآن حول المستقبل واستشرافه، والإبداع والابتكار فيها. وقد حققت المنظمات اليابانية هذا المفهوم بكل دقة، خاصة عقب هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. فقد وضعت الشركات اليابانية نصب أعينها من خلال استشراف إداري علمي متميز أهدافها الإستراتيجية، بما يضمن لها التواجد في سوق المنافسة العالمي.

واتساقاً مع هذا المفهوم الإداري الاستشرافي، يذكر لنا إبراهيم المنيف في كتابه "إستراتيجية الإدارة اليابانية" أن اليابانيين يركزون على أهدافهم طويلة الأجل في الحصول على الحصة السوقية والنمو. ولهذا السبب نلاحظ بوضوح القدرة التنافسية للشركات اليابانية أمام غيرها التي تركز على الربح القصير الأجل. فالحصول على حصة من السوق والنمو المضطرد يعتبر أكبر وأنبل الأهداف للشركات والإدارة اليابانية من نهج إستراتيجي طويل الأمد. فالشركات تفضل النمو عن الأرباح.

ووفقاً أيضاً لما يبرزه المنيف فإن أحد أهم مرتكزات العمل الإداري التي تشكل إستراتيجيات طويلة الأمد للشركات والمنظمات اليابانية وتفوقها على غيرها في سوق المنافسة على المستويين المحلي والعالمي هو "المستهلك"، ولذلك فإن البروفسور "رتشي" الأستاذ بجامعة "كولومبيا" يطلق على الحضارة اليابانية (حضارة المستهلك) الذي تستشرف من خلاله هذه الشركات والمنظمات إستراتيجياتها للمستقبل. فهذا المستهلك يسعى دائما للأجود وهو مالا تستطيع تلك الشركات تحقيقه بسهولة، وهو ما ينطبق-على سبيل المثال-على نموذجين هما: سيارات شركة "بي إم دبليو" الأمانية، والساعات اليابانية-السويسرية المشتركة "سيكو"، بدخولهما السوق اليابانية بعد إجراء تعديلات عليهما لإرضاء المستهلك الياباني الذي يسعى دائما من أجل الحصول على سلع وخدمات ذات جودة عالية.​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة