قصة نجاح!

​لم يكن النجاح الاقتصادي حليفاً لأي تجربة دولية، بغير اعتمادها على التخطيط للاستثمار التنموي، تستوي في ذلك تجارب التاريخ الاقتصادي القديم والحديث. فالدول النامية التي اجتهدت للانعتاق من أسر التأخر الاقتصادي، قد علمت أن الطريق السليم الموصل لهذه التنمية يحتاج لخطة فعّالة في تشجيع الاستثمار المحلي في القطاعات الإنتاجية المهمة، ولخطة كفء لتحفيز الاستثمار الأجنبي الناقل للتكنولوجيا. ولكي تحقق تحولاً جوهرياً في أداء اقتصادها الوطني، كان لزاما على هذه الدول أن تُرقّي مؤشرات الأداء الاقتصادي للجهاز الحكومي.

ولما كان طريق التنمية شاقاً في خطواته وطويلاً في مسافته؛ فكيف لنا أن نحكم على تجربة ما بأنها حققت نجاحاً في أداءها التنموي، أو أنها مستمرة في السير على هذا الطريق؟ بطبيعة الحال لا يوجد مؤشر اقتصادي وحيد يعيننا على إصدار مثل هذا الحكم. غير أن التجارب التنموية الناجحة، والتجارب السائرة على درب النجاح، تشترك جميعها في القول بأن معدل تدفق الاستثمارات الأجنبية لقطاع الصناعة التحويلية، والذي يسهم في توطين التكنولوجيا الصناعية في الدولة المضيفة له، يلعب الدور الحاسم في مساندة التحول التنموي فيها.

دعنا الآن ندلل على أهمية الاستثمارات الصناعية للأجانب في تحقيق التحول التنموي، ونتوسل بقصة نجاح عربية لتحقيق هذا الهدف. ففي الاقتصاد المغربي، ولتمتعه بمزايا تنافسية عديدة، ولصياغته لسياسات اقتصادية تُزيد من العائد المتوقع على الاستثمار، تدفقت الاستثمارات الأوروبية والأسيوية للتوطن في قطاع تجميع السيارات، حتى أصبح الاقتصاد المغربي قاب قوسين أو أدنى من ريادة قطاع السيارات في قارة أفريقيا.

صحيح أن مكاسب شركات السيارات الأوربية من نقل جزء من أنشطتها الإنتاجية للمغرب، تتفوق على مكاسب الاقتصاد المغربي من الأنشطة نفسها؛ لاقتراب ونفاذ هذه الشركات للسوق الأفريقي الواسع، ولكون أنشطتها في الاقتصاد المغربي مازالت متركزة في عمليات التجميع منخفض القيمة المضافة. غير أن ذلك لا يمنعنا من القول بأن معدل النمو الذي يحققه الاقتصاد المغربي حالياً-(وصل ذلك المعدل لنسبة 4,1% في العام 2017م وفق بيانات البنك الدولي)-لم يكن له ليتحقق بدون تدفق هذه الاستثمارات الصناعية في قطاع تجميع السيارات. فتحفيز الطلب على العمالة الماهرة، وزيادة الجهد الضريبي، وزيادة الطاقة التصديرية، كانت نتائج طيبة للاستثمارات الأجنبية العاملة في تجميع السيارات في الاقتصاد المغربي.

ولئن كان هذا التدفق الملحوظ للاستثمارات الأجنبية في قطاع السيارات في المغرب، يعتبر بمثابة قصة نجاح عربية في جذب الاستثمارات الصناعية؛ إلا أن هذا يمثل فصلاً واحداً من فصول قصص النجاح العالمية. ولو توقفت القصة المغربية عند هذا الفصل فلن تصبح من النماذج العالمية التي تحوز على الإشادة والتقدير الدائمين. فمناط الاستدامة في قصص النجاح الصناعية، هو أن ترتقي الأنشطة الإنتاجية من مراحل التجميع البسيط في عنابر الشركات الأجنبية، إلى مراحل التصنيع والابتكار والتطوير في عنابر الشركات المحلية، والتي تحاكي الشركات الأجنبية المجاورة لها. ولذلك، وبعد نجاحها في جذب الاستثمارات الأجنبية في قطاع السيارات، يقع على عاتق الإدارة الاقتصادية في المغرب التخطيط لتحقيق هدفين جوهريين هما: الأول زيادة نسبة المكون المحلي في أنشطة شركات السيارات الأجنبية العاملة على أرضه، والثاني تحفيز الشركات المحلية على محاكاة عمليات التصنيع للشركات الأجنبية، ودون الإخلال بقواعد حقوق الملكية الفكرية في الأنشطة الصناعية.

على أن العرض المقتضب السابق لقصة النجاح المغربية؛ يجعلنا نتساءل عن الدروس المستفادة التي يمكن للاقتصاد السعودي أن يستخلصها من هذه القصة. وبصفة عامة، ولأن الاقتصاد السعودي يمثل سوقاً مهما لشركات السيارات العالمية، فيمكنه أن يصبح وجهة استثمارية-بالقدر ذاته من الأهمية-للشركات العالمية نفسها. ولكي يتحقق هذا الهدف؛ فعلى السياسة الاقتصادية السعودية أن تعمل على محورين هما:

  • الأول هو تهيئة المناخ الاستثماري السعودي ليصبح جاذباً لاستثمارات شركات السيارات العالمية. ولما كانت أحوال سوق العمل تمثل محدداً رئيسياً في صناعة السيارات، فيتعين تطوير برنامج طموح لتوفير الكفاءات الوطنية للعمل في هذا القطاع الرائد.
  • الثاني هو الدخول في مفاوضات مباشرة مع كبريات الشركات العالمية المنتجة لأهم السيارات المباعة في السوق السعودي، والاعتماد على ميزة اتساع سوقه أمام هذه الشركات في اقناعها بنقل جزء متزايد من أنشطتها الإنتاجية لداخل الاقتصاد السعودي.

ولكي تُسطّر التجربة السعودية قصة نجاح عالمية جديدة في قطاع صناعة السيارات، لا بديل عن تقديم صنوف الدعم للشركات الصغيرة والمتوسطة التي ستتشابك أنشطتها مع شركات السيارات العالمية حال توطنها محلياً؛ حتى تتكامل الأنشطة الاقتصادية العاملة في هذا القطاع، وحتى ترتقي القيمة المضافة المولدة فيه، وبما يساعد في تحرير التنمية الاقتصادية من قيودها الداخلية والخارجية.

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة