تطوير وتحديث الهياكل التنظيمية ودورها في التنمية الإدارية


تسعى جميع الدول الفاعلة اقتصادياً حول العالم إلى تحقيق التنمية المستدامة، ومواكبة التطور، واكتساب مكانة في العالم الاقتصادي العالمي؛ وهو ما يمكن تحقيقه من خلال مؤسساتها العامة والخاصة باعتبارهما الوحدات السياسية لممارسة الأنشطة الاقتصادية، حيث يؤثر حسن وفعالية تسيير المرفق العام أو الخاص وفعالية الأداء على الاقتصاد الوطني ككل. ولتحقيق هذه الغاية أصبح من الضروري على الحكومات الحيوية في ظل التحولات الاقتصادية التي عرفتها في الآونة الأخيرة الخروج من الاقتصاد الموجه والدخول إلى اقتصاد السوق الحر، وهو ما أقرته حكومتنا الرشيدة في المملكة من خلال عمليات خطة التحول الوطني ورؤية 2030 الجادة والمباركة.                                                                                                               

وقد أبرزت أدبيات هذه الخطة والرؤية أهمية موضوع تسيير وإدارة المؤسسات الاقتصادية في ظل اقتصاد السوق الحر؛ باعتباره أهم الوسائل التي تعتمد عليها الدول المتقدمة في تطوير اقتصادها، مركزة على أهم الوظائف الإدارية، وهي التنظيم بما فيه الهيكل التنظيمي؛ نظراً لأهميته الكبيرة في هذه المؤسسات باعتباره الوسيلة الرسمية التي يتم من خلالها إدارة المنظمات عبر تحديد خطوط السلطة والاتصال بين الرؤساء والمرؤوسين. فقد أدى التطور الاقتصادي والتكنولوجي إلى حتمية التطوير التنظيمي وتطوير الهياكل التنظيمية، إذ إن الحوكمة والشفافية كانتا من أهم الأسباب والمسارات لوجوب التطوير والتحديث. ذلك أن تطوير هذه الهياكل وتحديثها بمثابة العمود الفقري للأجهزة الحكومية والمؤسسات الخاصة على السواء، ويساعد على تحديد الوظائف والمسئوليات وانتقال الأوامر والتعليمات بين المستويات بدقة، ويسهل كذلك عملية الرقابة داخلها-بشكل رأسي وأفقي-من قبل الأجهزة المختصة بتقييم تلك المنظمات.                                                                                                           

الوظيفة الثانية

ويعد التنظيم الوظيفة الفعالة الثانية للإدارة والتي تأتي بعد التخطيط. فبعد وضع الخطة يتوجب على المؤسسات القيام بتنفيذها، ولتسهيل هذه العملية تقوم المؤسسة بتصميم مجموعات عمل وأقسام وإدارات وتوزيع المهام والمسؤوليات على مختلف الموظفين وتحديد السلطات وهذا ما يعرف بالتنظيم الذي تم تعريفه-وفقا للرأي الراجح إدارياً-بأنه وظيفة تمثل جميع الأنشطة التي يقوم بها المدير العام من ناحية ترتيب الموارد الاقتصادية وتجميعها لتحقيق أهداف المنشأة بأقل التكاليف الاقتصادية وبدقة وعدل وإنصاف. وتجدر الإشارة إلى أنه من أهم مبادئ التنظيم مبدأ وحدة الهدف، والذي يعني أن تحدد المؤسسة هدفاً إستراتيجياً معيناً تنبثق منه مجموعة من الأهداف الجزئية الخاصة بكل هيئة. فالتنظيم يتجسد دوره في دمج هذه الأهداف، بحيث تسعى كل هيئة لتحقيق أهدافها وصولاً إلى الهدف العام الإستراتيجي للمنشأة.

التقسيم والتعادل

وكذلك مبدأ تقسيم العمل الذي يعد من أهم المبادئ الأساسية في عملية التنظيم ويظهر وجوبه عندما يتزايد حجم العمل بسبب كثرة مهمات العمل ودرجة تعقيدها، مما يحتم وضع الجهود الإنسانية والإدارية في المؤسسة في شكل مقسم ومجزأ على الموظفين والإدارات، فيكون كل فرد أو قسم لديه تخصص معين في مجال من مجالات العمل. ومن أهم مزايا هذا المبدأ أنه يحقق أعلى كفاءة إنتاجية ممكنة ورفع مستوى الأداء في العمل؛ لما يحققه التخصص من جودة واتقان، كما يسهم هذا المبدأ بشكل كبير في ضمان عدم وجود تكدس في عدد الموظفين بحيث يضمن أن يكون هناك عمل جوهري في المنظمة لكل فرد يعمل بها، كما يعد مبدأ تعادل السلطة والمسؤولية الذي يوجب المساواة بين السلطة كحق والمسؤولية كواجب، والذي يعني أنه عند إلقاء مسؤولية أداء عمل معين على فرد ما يجب إعطاءه السلطة اللازمة لتنفيذ هذه المسؤولية، فهذا من أهم المبادئ التي تتبع في التنظيم الإداري. وكما اتضح لنا من أهمية التنظيم الإداري وضرورة ضبط المبادئ التي يقوم عليها لضمان الجودة؛ فإن الإدارة بعد ذلك تذهب للبحث عن عامل تطوير وتحديث الهياكل التنظيمية الخاصة بها، والذي يعد بمثابة الإطار الذي يوضح التقسيمات أو الوحدات أو الأقسام الإدارية التي تتكون منها المؤسسة مرتبة على شكل مستويات فوق بعضها البعض، تأخذ شكل هرم يربطها خط سلطة رسمية تنساب من خلاله الأوامر والتعليمات والتوجيهات من المستوى الأعلى أو الأدنى، ومن خلاله تتضح نقاط اتخاذ القرارات ومراكز السلطة والمسؤولية.

الجودة والشفافية

وقد عرف عالم الإدارة "ماكس ويبر" الهيكل التنظيمي بأنه (مجموعة من القواعد واللوائح البيروقراطية التي تعطي الحق للأفراد في أن يصدروا الأوامر للأفراد الاخرين على نحو يحقق الرشد والكفاءة)، وبذلك يعتبر الهيكل التنظيمي الطريقة التي تنظم بها الموارد البشرية في صورة علاقات مستقرة نسبياً والتي تعد إلى حد كبير أنماط التفاعل والتنسيق والسلوك الموجه نحو انجاز أهداف منظمة، وبذلك يظهر لنا تركيز عملية التحول الوطني وأدبيات رؤية  2030 على ضرورة أن تكون الهياكل التنظيمية الحديثة ممثلة بشكل واضح على الآلية الرسمية التي يتم من خلالها إدارة المنظمات عبر تحديد خطوط السلطة والاتصال بين الرؤساء والمرؤوسين بشكل دقيق وعملي؛ يتحقق معه معيار الجودة والشفافية وتفادي التضخم الوظيفي في الوزارات. وبذلك تتحقق فعالية العمل الإداري والرئاسي مع التركيز على أهم الخصائص الواجب توفرها في الهيكل التنظيمي المميز ومنها الاستفادة من التخصص، وذلك بأن يقوم كل عامل بأعباء وظيفة واحدة أو قسم لكل عمل؛ حتى تتحقق سرعة الانجاز والإتقان وخفض التكلفة، مع أهمية أن يشتمل الهيكل الحديث على التنسيق بين أعمال المؤسسة، بحيث يتم القضاء على الازدواجية والتكرار والعمل على مبدأ التكامل بين أعمال المنظمة، وأن يتضمن الاهتمام بالنشاطات المهمة للمؤسسة والتمييز بين الأهم والأقل أهمية. فالهيكل التنظيمي الجيد يعطي الأولوية والاهتمام للأنشطة الرئيسة ويضعها في مستوى إداري مناسب. وفعالية الرقابة مطلب جوهري في الهيكل التنظيمي الحديث، بحيث يتيح رقابة فعالة، فيتم فصل الرقابة وذلك بأن لا تكون الوظيفة التي تخضع للرقابة مع الموظف نفسه القائم بها تفادياً لتعارض المصالح.                                                                                                                 

ومن الضرورة مراعاة الظروف البيئية في بناء الهياكل التنظيمية المميزة فلا بد من الاهتمام والنظر للبيئة الداخلية والخارجية للمنظمة وتأثيراتها عليها، بحيث يكون هناك مرونة للاستجابة لأي تغييرات أو تعديلات طارئه، ويعتبر الهيكل التنظيمي المميز وفقاً لمضامين رؤية 2030 مراعياً للتكاليف اللازمة لاحتياجات المنظمة من تخصص ووحدات، بحيث يتم تقرير التقسيمات التي من المتوقع أن تكون فوائدها طويلة الأجل وواقعية؛ وبالتالي عدم الاسراف في تقدير الوظائف والإدارات؛ مما يؤدي إلى خلق وظائف قيادية هدفها المصالح الخاصة على حساب الصالح العام.

أفضل الممارسات

ويظهر لنا مما سبق أن مسار عملية تطوير الهياكل التنظيمية، والتطوير التنظيمي تعد عمليات متكاملة تشمل المنظمة ككل من خلال تخطيط محكم؛ يستهدف رفع الكفاءة الإنتاجية للعاملين وتحقيق أقصى درجة من الفاعلية والجودة التنظيمية وما توفره من معلومات في التفاعل مع الموظفين والإدارة والمجتمع الخارجي. وكما ذكرنا يعتبر الهيكل التنظيمي المميز وللحاجة الملحة من أهم أطراف هذه العملية التحديثية؛ وذلك لما يستجد من حاجة إلى تطوير خلال دورة حياة الوزارات والمنظمات. وحسب ما تفرضه المعطيات الداخلية والخارجية يتم الشروع في تطوير الهيكل التنظيمي لمواجهة الظروف المحيطة، وقد يكون هذا التطوير جزئياً فيمس جزءاً أو نسبة من الهيكل التنظيمي أو يتطلب إعادة تقسيم وتغيير كلي. ولتطوير الهياكل التنظيمية-وفقاً للمعطيات السابقة-دور تهدف له رؤية 2030 وهو الدور القانوني لحوكمة المنظمات والشركات، حيث يتمثل تطوير الهياكل التنظيمية في المحددات الداخلية؛ بحيث يشتمل على القواعد و الأساليب التي تطبق داخل تلك الكيانات  والتي تتضمن وضع هياكل إدارية سليمة توضح كيفية اتخاذ القرارات والتوزيع  المناسب للسلطات والواجبات بين الأطراف المعنية بتطبيق مفهوم الحوكمة والشفافية، وذلك بالأسلوب العملي الأمثل الذي يؤدي إلى تحقيق مصالح المجتمع والحكومة على المديين القصير والطويل؛ لنصل إلى الترشيد الأمثل في النفقات ومكافحة الفساد المالي والإداري. فالحوكمة تسعى إلى خلق جو من الاستقرار والأمن الوظيفي والمالي داخل المجتمع والوزارات والمؤسسات المختلفة. وأحد أهم الوسائل لضمان تحقيق ذلك هو الهيكل التنظيمي المميز فالحكومات الحيوية-كما ذكرنا في المقدمة-تسعى من خلال سياساتها المتجددة إلى الوصول بمجتمعها لكل مبادئ العدل والمساواة والرقي والشفافية.

ومما لا شك فيه أن الحكومة الرشيدة وصناع الرؤية 2030 قد اعتمدوا على المستشارين الوطنيين والعالميين، وعلى المنهجيات العملية التي تتمتع بها أفضل الممارسات العالمية وثقافة الأعمال العامة والخاصة حول العالم والتي سوف نرى بحول الله تعالى نتائجها قريباً؛ لضمان تنمية مستدامة يستفيد منها وطننا العزيز للأجيال الحاضرة وللمستقبل. 

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة