رقائق البطاطس أم رقائق التكنولوجيا؟!

​عنوان هذا المقال هو تساؤل مازال يُطرح على راسمي البرامج الاقتصادية في الدول الآخذة في النمو، وخصوصا راسمي البرامج التي تهتم بالحجم على حساب الكيف والنوعية؛ ذلك لأن العلاقة الطردية بين أحجام الاستثمار والانتاج والتصدير وبين معدل النمو الاقتصادي، جعلت بعض البرامج الاقتصادية توجه جُل سياساتها لاستهداف أحجام مرتفعة من هذه الأنشطة-كوسيلة أساسية لزيادة معدل النمو الاقتصادي السنوي المحقق-ودون أن تعبأ بتركز هذه الأنشطة في القطاعات الاستخراجية والعقارية والخدمية منخفضة القيمة المضافة، ومنخفضة الأثر التنموي المستدام.

وعندما طُرح هذا التساؤل نفسه على التجارب الدولية الرائدة؛ كانت إجابتها عليه بمثابة "درس تنموي" لكل سالكي دروب التنمية الاقتصادية. فلقد أثبتت هذه التجارب أن نوعية أنشطة الاستثمار والإنتاج والتصدير-لا أحجامها-هي التي تضمن قدرة الاقتصاد على زيادة النمو، وعلى تحول هذا النمو ليصبح من النوعية المستدامة. ومصداقاً لما نقول، فإن تركز الاستثمارات الجديدة في قطاعات الصناعة متوسطة وعالية التقنية؛ هي التي مكنت كل من الاقتصاد الكوري والتايواني والماليزي (كأمثله دولية شهيرة) من تحقيق طفرة تصديرية كبيرة، وللدرجة التي عالجت معها الاختلالات الهيكلية في موازين مدفوعاتها، وأسهمت-مع مضي السنوات-في تحقيق معدل مستدام من النمو الاقتصادي.

وعلى هذا الأساس، وتأسياً بالتجارب التنموية الناجحة، دعنا-في نقاط أربعة محددة-نذكر "القواعد الذهبية" التي يتعين على راسم أي برنامج اقتصادي أن يُراعيها، وهو يرسم سياسات الاستثمار، ليستهدف مقادير مرتفعة من التصدير التنموي، وهذه القواعد هي:

أولها أن تتسع قاعدة الصناعات التصديرية الوطنية بفعل الاستثمار المحلي والأجنبي لتشمل كل الأنشطة الاقتصادية القادرة على المنافسة الدولية، ولتمنع حدوث التحيز والتركز الاقتصادي في أنشطة استخراج وتصدير المواد الخام، أو الأنشطة الصناعية الأولية، ولتساعد بذلك في ترقية نصيب الاقتصاد الوطني من "سلاسل الإنتاج الصناعي" الدولية. ولن يحدث ذلك إلا أن يكون الهدف الأول لسياسات الاستثمار في قطاع التصدير هو استقطاب الاستثمارات المحلية والأجنبية متوسطة وعالية التقنية.

ثانيها أن تسهم أنشطة التصدير في تشغيل العمالة الوطنية الماهرة، ووفق هذه القاعدة/المعيار يمكن المفاضلة بين القرارات الاستثمارية وبعضها البعض، ويمكن ترتيبها تنازليا حسب قدراتها على التشغيل، كما يمكن في ضوء ذلك بناء نظام حوافز دقيق الاستهداف للاستثمارات عالية التشغيل والتصدير في آن واحد.

ثالثها أن تسهم هذه الصادرات في بناء المعارف الوطنية وتراكمها، وخصوصا في قطاع الصادرات المولدة من الاستثمارات الأجنبية المباشرة. ولكي يحدث ذلك فإن سياسات الاستثمار مُطالبة بتوفير تشابكات أمامية وخلفية مع أنشطة الاستثمار الأجنبي المتركز في قطاع التصدير. ويمكن لقطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة أن يؤدي أداءً جيداً في هذا الخصوص. وبعبارة أكثر وضوحاً، يتعين تطوير نظام حوافز صارم؛ لربط مخرجات المشروعات الصغيرة والمتوسطة المحلية بأنشطة الاستثمارات الأجنبية المتجهة للتصدير. ومن الضروري أن يتضمن هذا النظام آليات منضبطة لحث الشركات الأجنبية على نقل المعرفة (وفي وقت لاحق التكنولوجيا) للمشروعات الصغيرة والمتوسطة الوطنية؛ حتى تتوافر المقومات المواتية لخلق كيانات وطنية قادرة على المنافسة في المستقبل القريب والمنظور.

رابعها ألا تستهدف أنشطة التصدير تغطية الاحتياجات الاستيرادية؛ لتحقيق التوازن الاقتصادي في ميزان المدفوعات فحسب. بل على راسم السياسات الاستثمارية في قطاعات التصدير، أن يضع نصب عينيه هدف تدعيم "الاحتياطيات الدولية"؛ كي يصبح الاقتصاد قادراً بها على تحقيق الاستدامة الخارجية، وأن يتجنب الوقوع أسيراً لـ "صدمات الاستيراد" الضارة.

وفي ضوء القواعد الأربعة السابقة؛ لعل القارئ الآن يمكنه أن يجيب بمفرده عن التساؤل الذي طرحه عنوان هذا المقال. فالتخصص في تصنيع وتصدير "رقائق التكنولوجيا"-على سبيل المثال-يتفوق على التخصص في تصنيع وتصدير "رقائق البطاطس"؛ كنتيجة لقدرة الأولى على تعميق وترقية  الصناعة الوطنية، وعلى زيادة حصتها في سلاسل التصنيع الدولية، وعلى تشغيل العمالة الوطنية الماهرة، وعلى بناء المعارف الوطنية وتراكمها باستمرار، وعلى تعظيم واستقرار العوائد المالية المتأتية من الصادرات. فالتخصص في صناعة "رقائق التكنولوجيا" أرقى-دون ريب-من التخصص في صناعة "رقائق البطاطس"!​

 
جميع الحقوق محفوظة: معهد الإدارة العامة